ما انعكاسات هجمات القاعدة على استقرار مالي؟
تشهد مالي في الأسابيع الأخيرة واحدة من أخطر موجات التصعيد منذ اندلاع التمرد عام 2012، مع توسّع نفوذ جماعة نصرة الإسلام والمسلمين التابعة لتنظيم القاعدة، وتصاعد هجماتها باتجاه الجنوب والعاصمة باماكو.
واتخذ التصعيد منحى بالغ الخطورة مع فرض التنظيم، منذ سبتمبر الماضي، حصارًا خانقًا على العاصمة عبر استهداف شاحنات الوقود وخطوط الإمداد الحيوية التي تربط مالي بدول الجوار، خصوصًا السنغال وكوت ديفوار.
هذا الحصار أدى إلى شلل شبه تام في قطاعات عدة داخل العاصمة، وانقطاعات الكهرباء في مناطق واسعة، وطوابير لا تنتهي أمام محطات الوقود، وتوقف الدراسة مؤقتًا في المدارس والجامعات قبل أن تتمكن الحكومة من تأمين بعض القوافل تحت حماية مشددة.
ورغم العمليات العسكرية المكثفة التي ينفذها الجيش المالي بدعم القوات الروسية المنتشرة ضمن ما يُعرف بـ"فيلق إفريقيا"، فإن التنظيم تمكن من تنفيذ هجمات دامية، أبرزها الهجوم على موقع عسكري في تمبكتو الذي أسفر عن مقتل أكثر من 48 جنديًا، بالإضافة إلى هجمات على مجموعات الدفاع الذاتي المحلية، وقرى بأكملها، باستخدام طائرات مسيّرة باتت تمثل تحولًا نوعيًا في قدراته القتالية.
أولاً: عوامل التصعيد
ترجع زيادة وتيرة الهجمات إلى مجموعة من الأسباب البنيوية والسياسية والعملياتية، أهمها:
1. الفراغ الأمني خارج العاصمةذ
: يركز الجيش حالياً جهوده على حماية باماكو وفك الحصار عنها، ما أدى إلى تراجع انتشاره في الأطراف، خاصة في ولايات تمبكتو وجاو ومناطق الوسط. هذا الانسحاب خلق فراغات واسعة استغلها التنظيم لإعادة التموضع وتوسيع نفوذه، وشن هجمات على مواقع معزولة تفتقر للإمداد والدعم الجوي. وقد ساهم هذا الواقع في خلق "مناطق رمادية" تعمل فيها القاعدة بحرية بعيدة عن سلطة الدولة.
2. الاعتماد المفرط على الدعم الروسي
: رغم الدور العملياتي المهم للقوات الروسية، فإن هذا الاعتماد لم يرافقه بناء بنية أمنية محلية قوية، ما ترك الجيش في وضع هش، خصوصًا في فترات إعادة تنظيم قواته. تستغل الجماعات المسلحة عادة مثل هذه الظروف لتكثيف هجماتها وقياس فعالية التحالفات الجديدة، وهو ما ظهر في استهداف الدوريات المشتركة وقطع خطوط الإمداد.
3.
تطور قدرات الجماعات الإرهابية عبر الطائرات المسيّرة
أدت المسيّرات إلى رفع دقة الهجمات وإحداث خسائر بشرية كبيرة، وأرغمت السكان على النزوح من بعض المناطق الريفية. ويشكل هذا التطور نقلة نوعية في تكتيكات التنظيم، ويعكس قدرته على الحصول على تكنولوجيا متقدمة.
4. تراجع التعاون الإقليمي بعد انسحاب مالي من إيكواس:
تسبب الانسحاب في إضعاف آليات تبادل المعلومات وتنفيذ العمليات المشتركة عبر الحدود، ما أتاح للجماعات الإرهابية التنقل بحرية أكبر بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر.
ثانيًا: انعكاسات التصعيد على الوضع الداخلي
خلّف الحصار والهجمات المسلحة آثارًا عميقة على الاستقرار الداخلي في مالي، منها:
1.تآكل سلطة الدولة وتراجع سيطرتها:
أصبحت مناطق واسعة في الشمال والوسط خارج السيطرة الفعلية للحكومة، ما فسح المجال لعودة الجماعات المسلحة وتعزيز اقتصاد الظل والتهريب. هذا التراجع في سلطة الدولة يفاقم فجوة الثقة بين المواطنين والسلطات ويدفع بعض المجتمعات إلى التحالف مع الجماعات كخيار حماية.
2. تفاقم الوضع الإنساني وتعطّل الخدمات
شهدت العاصمة نقصًا حادًا في الوقود وانهيارًا في الإمدادات الكهربائية، ما أدى إلى تعطل النقل العام وإغلاق عدد من المدارس. كما ارتفعت أسعار السلع الأساسيّة بسبب إغلاق الطرق التجارية، الأمر الذي زاد الاحتقان الشعبي ورفع مؤشر التضخم في البلاد.
3. ارتفاع خسائر الجيش وتآكل قدرته القتالية:
تكبّد الجيش خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات نتيجة الهجمات المتتالية. هذا الضغط المستمر يضعف معنويات القوات، ويتيح للجماعات الإرهابية الاستيلاء على أسلحة وذخائر جديدة تعزز قدراتها.
ثالثًا: تأثيرات إقليمية محتملة
يمتد تأثير التصعيد إلى خارج حدود مالي، وتشمل أبرز التداعيات:
1. خطر تمدّد الجماعات الإرهابية نحو دول الجوار
: قد يؤدي سقوط باماكو -إن حدث- إلى تحرك الجماعات المسلحة نحو تشاد والنيجر وبوركينا فاسو وموريتانيا. ضعف الحدود وتراجع التنسيق يجعل المنطقة خصبة لانتشار العمليات الإرهابية.
2. إعادة تشكيل التحالفات الدولية في الساحل:
دفعت التطورات الأخيرة دولًا مثل الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا إلى تقليص وجودها الدبلوماسي، فيما توسع روسيا حضورها العسكري. هذا التحول قد يعمّق الانقسام بين دول المنطقة بشأن الشراكات الأمنية.
3. موجات نزوح ضخمة:
قد يؤدي تدهور الوضع حول العاصمة إلى نزوح مئات الآلاف نحو دول تعاني أصلًا من هشاشة اقتصادية وبنية تحتية ضعيفة، ما قد يشعل توترات اجتماعية ويمكّن الجماعات المسلحة من استغلال النازحين للتجنيد.
4. تهديد طرق التجارة الإقليمية:
تمثل مالي محورًا رئيسيًا للتجارة بين موانئ غرب إفريقيا والصحراء الكبرى، واستمرار الحصار أو سقوط العاصمة سيعطل الحركة التجارية ويضر اقتصادات دول الجوار.
ختامًا
تواجه مالي لحظة حاسمة في ظل استمرار هجمات القاعدة وحصار العاصمة والضغوط الإقليمية. وتبقى السيناريوهات مفتوحة بين قدرة الجيش على فك الحصار بدعم روسي، أو استمرار حالة الجمود، أو انزلاق البلاد نحو انهيار أمني خطير يعيد رسم خريطة الساحل الأفريقي بالكامل.