من ركام الحرب إلى خيام الأمل.. غزة تبدأ رحلة البقاء

غزة.. مدينة تبحث عن الحياة بين الركام
في غزة، المدينة التي تحوّلت إلى أطلال بعد حربٍ مدمّرة استمرت شهورًا طويلة، لا يسمع اليوم سوى أصوات الأطفال الباحثين عن بقايا منازلهم بين الركام، وأمهات يحاولن نصب خيام فوق ما تبقّى من حجارة الذكريات.
عقب اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس، عاد عشرات الآلاف من الفلسطينيين إلى أحيائهم التي محاها القصف، ليكتشفوا أن العودة هذه المرة لا تعني الاستقرار، بل مواجهة واقع جديد من الدمار والعوز واليأس.
في شوارع المدينة الساحلية التي كانت تضجّ بالحياة، تبدو الصورة قاتمة. الأبنية منهارة، والطرقات مقطّعة، وشبكات الكهرباء والمياه والاتصالات خارج الخدمة بالكامل. ومع ذلك، لم يمنع كل هذا سكان غزة من التمسّك بما تبقى من الأمل، إذ لجأ كثير منهم إلى نصب خيام صغيرة على أنقاض منازلهم، في مشهدٍ يختصر صمود الفلسطينيين وقدرتهم على مقاومة الانكسار.
الحياة صعبة جدًا
تجلس أم رامي لبد، البالغة من العمر 46 عامًا، أمام خيمتها في حي الكرامة شمال غرب مدينة غزة، تنظر بحزن إلى المكان الذي كان يومًا منزلها. تقول لوكالة “فرانس برس”:
الحياة صعبة جدًا، لا أعرف كم سنصمد. لا يمكنني التوقف عن التفكير، لكني أرجو فقط أن يُسمح لنا بإدخال خيام على الأقل.
عادت أم رامي إلى حيّها بعد نزوحٍ قاسٍ إلى منطقة المواصي جنوبي القطاع، عقب أيام من الهدوء النسبي الذي أعقب الإعلان عن وقف النار.
إلا أن ما وجدته عند عودتها لم يكن سوى رماد الحرب وخرائب المنازل، حيث لم يبقَ من حيّها سوى بقايا جدران وركام متناثر.
تجمع أم رامي مع أطفالها ما تبقّى من خشب أثاثها المكسور وبعض الملابس القديمة وأسطوانة غاز صغيرة، وتقول بصوت متهدّج:
نجمع كل شيء يمكن أن ننتفع به، سنبيع البلاستيك، ونستخدم الخشب للطهي أو لبناء مرحاض، لا نملك شيئًا غير هذا.
مع حلول الليل، يخيّم الظلام على المكان بعد أن انقطعت الكهرباء بالكامل عن الحي، فلا صوت إلا لصرير الرياح التي تمر بين الأبنية المهدّمة، ولا نور سوى ما تصدره مصابيح صغيرة تعمل بالبطاريات.
مدينة بلا ملامح
في شمال غرب غزة، حيث كانت تدور أعنف العمليات العسكرية الإسرائيلية خلال الأسابيع الأخيرة من الحرب، تبدو الشوارع خالية إلا من بعض الناجين الذين يبحثون بين الأنقاض عن شيء يمكن إنقاذه.
تقول أم رامي:
كنت أنظر نحو الشرق ولا أرى شيئًا على امتداد البصر. حيّ الشيخ رضوان مقلوب رأسًا على عقب، ومنطقة النفق اختفت تمامًا.
وتضيف بأسى:
نزحنا إلى الجنوب بداية الحرب وعدنا إلى بيتنا رغم أنه كان مدمّرًا جزئيًا، لكننا اضطررنا لمغادرته حين سقطت القذائف على العمارة المجاورة. الأمل الوحيد الذي كان متبقّيًا لنا دمّروه بالكامل.

النوم على الرصيف
على مقربة من حيّ النصر، يعيش حسام ماجد (31 عامًا) مأساة مشابهة.
عاد الشاب إلى غزة فور إعلان اتفاق وقف إطلاق النار ليجد منزل عائلته المؤلف من عدة طوابق وقد سُوّي بالأرض تمامًا.
كدت أفقد وعيي حين رأيت البيت، لم يمر شهر على نزوحنا منه، كنا نأوي عشرات النازحين، لكننا هربنا حين اقتربت الدبابات.
يقول حسام إنه يبيت الآن في الشارع قرب ركام منزله، يحرس المكان خشية أن يسرقه أحد أو ينصب عليه خيمة.
الوضع صعب جدًا، لا حياة هنا، الطعام غالٍ لأنه نادر، لا ماء، لا كهرباء، ولا إنترنت. حتى الماء نضطر لقطعه من مسافة تزيد على كيلومترين.
ويضيف أن ما يراه في المدينة يفوق الوصف:
الناس تائهون، كل واحد يبحث عن بيت أو جدار أو حجر يدل على مكانه. الدمار لم يترك شيئا”.
رماد الحرب
على غرار حسام، عاد أحمد صبيح ليجد بيته وقد اختفى تمامًا تحت الركام، لا أثر لسقف أو جدار.
يقول وهو يهمّ بنصب خيمته:
من لم يمت بالقصف سيموت بالقهر. كل شيء ضاع، كل شيء تحول رمادًا”.
بينما كان مصطفى محرم، أحد سكان حيّ الرمال، يحاول تجهيز مكان لإقامة أسرته، قال وهو يشير إلى الخيمة التي نصبها:
بيتنا المكوّن من ثلاثة طوابق لم يعد موجودًا، لا ماء للشرب ولا حتى مياه مالحة، لا كهرباء، لا شيء من مقومات الحياة.
ويتابع بأسى:
ذهب كل شيء.. لا يمكن العيش هنا، لكننا لا نريد المغادرة مرة أخرى. سنبقى حتى لو فوق الركام.
جهود محدودة ومساعدات لا تكفي
رغم تدفّق بعض المساعدات الإنسانية عبر معبر رفح بإشراف من الأمم المتحدة ومصر وقطر، فإن تلك المساعدات تبقى محدودة جدًا مقارنة بحجم الكارثة.
تقول مصادر في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) إن الاحتياجات الإنسانية في غزة تجاوزت قدرة أي منظمة منفردة على تلبيتها”، مشيرة إلى أن آلاف العائلات ما زالت بلا مأوى، فيما تواجه المستشفيات نقصًا حادًا في الإمدادات الطبية والوقود.
وأكدت تقارير أممية أن نحو 85% من سكان قطاع غزة أصبحوا نازحين داخليًا، وأن أكثر من 70% من المساكن تضررت أو دُمرت كليًا منذ بدء الحرب.
كما توقعت الأمم المتحدة أن تستغرق عملية إعادة الإعمار سنوات طويلة بسبب حجم الدمار والعقوبات المفروضة على إدخال مواد البناء.
قوة دولية للبحث عن رفات المفقودين
وبالتوازي مع معاناة المدنيين، أعلنت مصادر دبلوماسية عن تشكيل قوة مشتركة تضم وسطاء من مصر وقطر والولايات المتحدة إلى جانب إسرائيل، لتحديد أماكن رفات الرهائن والمفقودين في قطاع غزة بعد انتهاء العمليات العسكرية.
وتهدف هذه القوة، وفق التصريحات الرسمية، إلى تسهيل عملية استعادة الرفات تمهيدًا لإجراء عمليات تبادل جديدة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية.
لكنّ سكان غزة يعتبرون أن هذه الجهود “لا تعنيهم”، فكما يقول حسام ماجد:
نحن أحياء لكننا منسيون. لا أحد يسأل كيف نعيش هنا.
احياء الموتى فوق الركام
رغم المشهد القاتم، يصرّ الفلسطينيون على البقاء في مدينتهم المدمّرة، وكأنهم يريدون إثبات أن الحياة يمكن أن تولد من قلب الموت.
يقول أحمد صبيح وهو يبتسم بمرارة:
نحن نضيء عتمة الرماد بقلوبنا. غزة لن تموت، حتى لو بقيت خيمة واحدة.
في المساء، تتلألأ أنوار صغيرة تصدر من مصابيح معلّقة على الخيام، كأنها تقول إن الأمل لم يمت بعد. وبين الركام، يلعب الأطفال بما تبقّى من ألعابهم المحطّمة، فيما تنشغل الأمهات بإعداد الطعام على مواقد بدائية.
هكذا يحاول سكان غزة إعادة الحياة إلى مدينتهم الرماد، بخيامٍ فوق الركام، وصبرٍ لا ينفد، وإيمانٍ بأن الغد سيكون أقل وجعًا من الأمس.
مأساة غزة.. مسؤولية العالم
بينما تستمر الدعوات الدولية لإطلاق جهود إعادة الإعمار، يرى محللون أن ما يحدث في غزة اختبار حقيقي لضمير المجتمع الدولي.
فالعقوبات والقيود المفروضة على إدخال مواد البناء، وغياب خطة دولية شاملة للترميم، تهدد بتحويل القطاع إلى منطقة منكوبة دائمة، يعيش سكانها بين خيام مؤقتة لا تقي حر الصيف ولا برد الشتاء.
وتشير تقديرات البنك الدولي إلى أن تكاليف إعادة إعمار غزة قد تتجاوز 15 مليار دولار، في ظل تدمير شبه كامل للبنية التحتية والمرافق العامة.
وبينما تتعالى الأصوات المطالبة بتدخل إنساني عاجل، يبقى المشهد في غزة شاهدًا على أحد أكثر فصول المعاناة الإنسانية قسوة في التاريخ المعاصر، حيث يواصل السكان “إضاءة” العتمة بإصرارهم على الحياة، رغم الرماد والغياب.