نبيل عمرو يكتب: «نتنياهو... حكاية الصعود والهبوط»

حين كان في عمر الـ35، وضع نتنياهو قدمه على أول سلّم الصعود إلى أعلى المواقع القيادية في إسرائيل، كان ذلك في عام 1984، حين عُيّن مندوباً دائماً لدى الأمم المتحدة.
منذ ذلك الحين، وُلدت ظاهرةٌ زعاميةٌ جديدةٌ ومختلفةٌ في إسرائيل، بطلها بنيامين نتنياهو، الذي شغل مناصب وزارية متعددة، منها «الخارجية» و«المالية» و«الصحة»... وغيرها، وكأن الأقدار تُعدّه ليكون رئيساً شبه دائمٍ للحكومة.
صنع بنيامين نتنياهو مكانته المميزة عن كل سابقيه، حتى من المؤسسين التاريخيين، من خلال مواهب لم تتوفر لأيٍ من منافسيه؛ سواء أكانوا من حزبه أم من الأحزاب الأخرى.
فهو «الملك» المتوّج في مجالَي الإعلام والخطابة، وهذا ما يقرّ به خصومه قبل مؤيديه. وهو «الساحر» في أداء اللعبة السياسية الداخلية فوق رمالها المتحركة، وفي سجلّه وقائع كثيرة تمكّن فيها من حرق كل من تجرأ على منافسته، وإنهاء كل من تحالف معه وهدد زعامته، أو حتى فكّر في مشاركته فيها.
وإلى جانب دهائه في التعامل مع الحياة الداخلية في إسرائيل، فقد بنى لزعامته جداراً استنادياً دائماً في واشنطن، مع علاقاتٍ تقترب من أن تكون تحالفية بموسكو، وتطوير علاقاتٍ اقتصاديةٍ بمن كانت تعترض عليها أميركا، وهي الصين.
والغريب في أمره أنه لم يحقق إنجازاتٍ بمستوى ما حقق بن غوريون على صعيد تأسيس الدولة، ولا بمثل ما حققت غولدا مائير، وديان، وليفي أشكول، على صعيد الحرب، ولا بمثل ما حقق مناحيم بيغن على صعيد السلام مع الدولة العربية الكبرى مصر.
غير أن اللافت هو تحقيقه الرقم القياسي في رئاسة الحكومة بما يفوق كل من سبقوه من التاريخيين والمؤسسين وأصحاب الإنجازات الكبيرة.
إن للشعور بالقوة الزائدة آفة دائماً ما تطيح صاحبها، وهذا ما حدث مع نتنياهو، حين تجاهل كل الأسس الأخلاقية والمهنية والقانونية التي تحكم موقع رئيس الوزراء، فأقدم على مخالفاتٍ من العيار الثقيل، ألقت على كاهله قضايا فساد عدة، كل واحدةٍ منها كفيلة بإرساله إلى السجن أو إلى البيت.
وأخطر ما فعل، إقدامه على محاولة الانقلاب على القضاء، بتفريغه من صلاحياته المتفق عليها منذ تأسيس الدولة، ونقلها إلى الكنيست حيث الغالبية التي توفر له الإفلات من مساءلة القضاء.
محاولته الانقلابية تلك، وأساسها شعوره بالقوة الزائدة، أنتجت ردود فعلٍ كادت تجعل إطاحته أمراً حتمياً ودون انتظار الانتخابات الدورية، وفي تلك الفترة كان نتنياهو يحسب بقاءه في السلطة بالأيام أو الأسابيع.
إلى جانب مواهبه التي وفرّت له لقبَيْ «الملك» و«الساحر»، فهنالك الحظ الذي يأتي بما لا يمكن توقعه؛ إذ هبط عليه من الغيب هذا الحدث الكبير الذي وقع يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، الذي أطلقت «حماس» عليه «طوفان الأقصى»... استيقظ نتنياهو من نومه ليجد القدر قد أهداه عمراً جديداً، فإسرائيل كلها أوكلت إليه قيادة المعركة الثأرية الحتمية، وأميركا المتحفظة عليه ألغت تحفظها وجاءته إلى بيته؛ من رئيسها إلى آخر عضوٍ في قيادتها العليا، وفتحت له أبواب البيت الأبيض من جديد، واكتملت ساعة حظه بقدوم دونالد ترمب إلى البيت الأبيض ليضع أميركا بكل ما تملك في تصرفه وطوع يمينه.
حاول نتنياهو، ومن خلال الحرب، استعادة إيقاعه القديم «ساحراً» و«ملكاً»؛ إذ وضع أجندةً للحرب تصلح في الأيام الأولى للحالة الانفعالية التي ألمّت بإسرائيل جرّاء المفاجأة، ولكنها؛ وإن أنتجت غالبية وراء الحرب، قسمت الدولة على قيادته لها. ومن هنا بدأت مرحلة الهبوط الثاني بعد هبوط انقلاب القضاء.
في فترة قيادته الحرب، التي لم تُحسم، تمادى الرجل في التعامل مع الدولة ومؤسساتها كما لو أنها مجرد ميليشيا تابعةٍ له، يجرّها وراء أجنداته الخاصة، غير أن ذلك أفرز ما لم يكن يرغب، فقد تفاقم الاختلاف بينه وبين المستوى العسكري على نحوٍ معلن، وفقد في الاستطلاعات غالبيته في الكنيست. وعلى صعيد السياسة، اضطربت علاقات إسرائيل بمعظم دول العالم، وتلونت في قيادته روايتها بالدم... كان نتنياهو يلوذ بالإنكار في بداية التحوّل الدولي ضده وضد حربه، إلى أن اضطر إلى الاعتراف بالعزلة وإشهار خوفه من حصارٍ تسليحي واقتصادي، حتى إنه خاطب الجمهور الإسرائيلي باقتراحه مخارج ساذجة من المآزق التي قاد إسرائيل إليها، مطالباً بزيادة الاستثمار المالي في الإعلام. وفي أدق وأحرج الأوقات، أنتج نتنياهو بنفسه ولنفسه فشلاً مدوياً بمجازفته الغبية بمهاجمة الدوحة، وكان ذلك على عكس المألوف عنه من ذكاءٍ ودهاء.
ومما ضاعف مأزقه، أن عمليته الغبية هذه فشلت تماماً، وحتى أميركا المتساهلة معه لم تنجح في تطويق تفاعلاتها على مستوى المنطقة والعالم.
صعود نتنياهو كان أشبه بالسباحة مع تيارٍ مُواتٍ، أمّا هبوطه... فأصبح حتمياً حين هبّت الرياح والعواصف عليه، وأخطرها جاء من داخل إسرائيل.
نقلًا عن صحيفة الشرق الأوسط