بوتين يتهم الغرب بإشعال فتيل الحرب الأوكرانية.. أمام قمة شنجهاي

في خطاب حاد خلال أعمال قمة منظمة شنجهاي للتعاون المنعقدة في مدينة تيانجين الصينية، وجّه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اتهامات مباشرة إلى الغرب، محمّلاً إياه مسؤولية اندلاع الحرب في أوكرانيا، ومؤكدًا أن محاولات ضم كييف إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) كانت من الأسباب الجوهرية لاندلاع النزاع المسلح المستمر منذ أكثر من ثلاث سنوات.
وقال بوتين، في كلمته التي لاقت تفاعلًا واسعًا من الحضور، إن الانقلاب السياسي في كييف عام 2014، بتحريض مباشر من الدول الغربية، شكّل بداية حقيقية للأزمة الأوكرانية، مشيرًا إلى أن الغرب دعم قوى معادية لروسيا لتولي السلطة، ما أسفر عن تغيير عميق في البنية السياسية والأمنية لأوكرانيا.
الناتو في قلب الصراع
وأضاف بوتين موضحًا:"إن السبب الثاني للأزمة يتمثل في المحاولات المستمرة من الغرب لضم أوكرانيا إلى الناتو، وهو أمر نعتبره تهديدًا وجوديًا مباشرًا لأمن روسيا القومي".
وأكد أن موسكو طالما حذّرت من تبعات توسيع الحلف شرقًا، واعتبرت أن ذلك يكسر التوازن الاستراتيجي في المنطقة، وينتهك التفاهمات الضمنية التي تلت انتهاء الحرب الباردة. وبيّن أن السبيل الوحيد لتسوية دائمة ومستدامة للأزمة الأوكرانية هو معالجة الأسباب الجذرية للصراع، وعلى رأسها هذه السياسات التوسعية الغربية.
وتابع الرئيس الروسي: "لكي تكون التسوية الأوكرانية حقيقية وقابلة للاستمرار، يجب ألا تكون مجرد وقف مؤقت لإطلاق النار، بل معالجة حقيقية للتهديدات الهيكلية التي واجهناها، بما في ذلك ضمانات أمنية ملزمة بعدم انضمام أوكرانيا إلى أي تحالفات عسكرية معادية".

انقلاب 2014: بداية الأزمة
وأشار بوتين في خطابه إلى أن ما وصفه بـ"الانقلاب" الذي وقع في أوكرانيا عام 2014، أسفر عن "إزاحة القيادة السياسية التي لم تكن تؤيد انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو"، وتم استبدالها – وفقًا له – بحكومة موالية للغرب تنفذ أجندات بعيدة عن المصالح الوطنية الأوكرانية.
ويُذكر أن عام 2014 شهد الإطاحة بالرئيس الأوكراني آنذاك فيكتور يانوكوفيتش، المدعوم من موسكو، في خضم احتجاجات حاشدة اندلعت في كييف وسُميت لاحقًا بـ"ثورة الميدان"، والتي سرعان ما أدت إلى تقارب سياسي سريع بين كييف والغرب، وتبعها ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، واندلاع نزاع مسلح في شرق أوكرانيا، قبل أن يتطور في 2022 إلى غزو شامل.
رسالة إلى المجتمع الدولي
في كلمته، لم يكتف بوتين بتوجيه اللوم إلى الغرب، بل وجّه رسائل مبطنة للمجتمع الدولي، محذرًا من أن غياب التوازن في منظومة الأمن الأوروبي يشكل تهديدًا طويل الأمد لاستقرار القارة.
وقال:"ما نحتاجه هو استعادة التوازن العادل في مجال الأمن الإقليمي والدولي. يجب احترام مصالح جميع الدول، وعدم فرض ترتيبات أمنية أحادية الجانب تفضي إلى صراعات جديدة".
وتعكس هذه التصريحات تمسك موسكو برؤيتها التقليدية للأمن الأوروبي، والتي ترى أن توسع الناتو ووجوده العسكري قرب حدود روسيا يتعارض مع التوازن الأمني، ويُعد تجاوزًا لخطوط حمراء رسمتها موسكو مرارًا منذ التسعينات.

إشادة بجهود الصين والهند
وفي سياق متصل، عبّر بوتين عن تقديره للدور المتنامي الذي تلعبه كل من الصين والهند في محاولة تسهيل حل الأزمة الأوكرانية، قائلاً:
"نثمّن عاليًا الجهود والمبادرات المقدّمة من قبل أصدقائنا في بكين ونيودلهي. كلا البلدين طرحا تصورات واقعية وغير منحازة بشأن مستقبل الأزمة، تتفق مع مبادئ السيادة والحوار".
وكانت الصين قد أعلنت عن خطة من 12 بندًا لحل الأزمة الأوكرانية في وقت سابق، تضمنت دعوة لوقف إطلاق النار والبدء بمفاوضات سلام، في حين طرحت الهند مبدأ "عدم الانحياز الفاعل" وسعت لعقد قنوات حوار بين موسكو وكييف، ما منحها مكانة دبلوماسية فريدة في هذا الملف المعقد.
كما عبّر بوتين عن أمله في أن تساهم التفاهمات التي جرى التوصل إليها في الاجتماع الروسي-الأمريكي الأخير في ألاسكا في خلق أجواء بنّاءة تمهّد لاستئناف المفاوضات. إلا أنه لم يفصح عن تفاصيل تلك التفاهمات.
مسار الناتو ومساعي أوكرانيا للانضمام
جدير بالذكر أن مسألة انضمام أوكرانيا إلى الناتو كانت محور جدل منذ سنوات. ففي قمة بوخارست عام 2008، أعلن قادة الحلف أن "أوكرانيا وجورجيا ستصبحان عضوين في المستقبل"، دون تحديد إطار زمني. وفي عام 2019، عدّلت أوكرانيا دستورها، لتُدرج فيه رسميًا التزامها بالسعي نحو عضوية كاملة في الحلف وفي الاتحاد الأوروبي، ما اعتبرته موسكو استفزازًا سياسيًا لا يمكن تجاهله.
ومنذ اندلاع الحرب في فبراير 2022، تلقّت أوكرانيا دعمًا عسكريًا وماديًا ولوجستيًا من معظم دول الناتو، فيما تجنّب الحلف الانخراط المباشر في العمليات القتالية، مؤكدًا أن أوكرانيا ليست بعد عضوًا كاملاً فيه.
لا اختراق في آفاق التفاوض
ورغم تلميحات متكررة من الجانبين الروسي والأوكراني حول استعداد مشروط للحوار، لا تزال الفجوة واسعة بين مواقف موسكو وكييف، ولم يُسجَّل أي تقدم ملموس باتجاه عقد لقاء مباشر بين الرئيسين فلاديمير بوتين وفولوديمير زيلينسكي.
المواقف الأوكرانية ما تزال متمسكة بانسحاب كامل للقوات الروسية من الأراضي المحتلة، بما فيها القرم، وضمانات أمنية غربية صارمة، وهو ما ترفضه موسكو بالمطلق، وتراه خضوعًا للإملاءات الغربية.
قمة شنجهاي.. تحديات وفرص
تأتي تصريحات بوتين في سياق قمة شنجهاي، التي تضم دولًا تمثل أكثر من نصف سكان العالم، وتجمع بين قوى إقليمية كبرى مثل الصين، الهند، إيران، باكستان، ودول آسيا الوسطى. وتُعد المنظمة منصة للتعاون السياسي والأمني والاقتصادي، وواجهة لما بات يُعرف بـ"النظام العالمي المتعدد الأقطاب"، الذي تسعى موسكو وبكين لتكريسه في مواجهة الهيمنة الغربية.
تصريحات بوتين خلال قمة شنجهاي لم تكن مجرد تحليل سياسي، بل رسالة مباشرة إلى الغرب والعالم بأن الحرب الأوكرانية ليست نزاعًا محليًا، بل انعكاس لصراع دولي أوسع على النفوذ والحدود والنظام العالمي الجديد.
ومع غياب أفق تفاوضي واضح، واستمرار المواقف المتصلبة من الطرفين، يبدو أن الحرب الأوكرانية مرشحة للاستمرار لفترة أطول، ما لم تظهر مبادرات دولية جديدة تمتلك القدرة على التأثير في حسابات أطراف النزاع.