د. عمرو الشوبكي يكتب: المواجهة بين «نموذجَي» طرابلس وبنغازي

الاشتباكات التي شهدتها العاصمة الليبية طرابلس منذ بدايات هذا الشهر وانتهت بقتل عبد الغني الككلي، قائد جهاز دعم الاستقرار، في كمين نُصب له مع 10 من حراسه، لا يمكن النظر إليها فقط على أنها في إطار صراع النفوذ داخل طرابلس، إنما أيضاً في إطار المعركة الدائرة بين بنغازي وطرابلس، والتي انتقلت من دائرة المواجهات المسلحة عقب فشل محاولات قائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر دخول طرابلس بالقوة المسلحة في 2019 إلى معركة أخرى بين «نموذجين»، أي نموذج الانضباط والصوت الواحد ومحاربة الميليشيات والإرهاب الذي تقدمه بنغازي، وبين نموذج المسار المدني والديمقراطية وقبول التعددية السياسية الذي قالت حكومات طرابلس إنها تتبناه بصفته نموذجاً «مدنياً» في مواجهة النموذج «العسكري» الذي تقدمه بنغازي.
إن ما جرى في طرابلس مع بدايات هذا الشهر من اشتباكات مسلحة، صحيح أنها استهدفت الككلي الذي شكَّل ما يشبه جيشاً خاصاً لخدمة مصالحه وحلفائه داخل أجهزة الدولة، وسيطر على موارد اقتصادية من خلال التهريب والاقتصاد الموازي، وانخرط في صراع النفوذ داخل المصرف المركزي، إلا أن الحجة التي رفعتها الحكومة لتبرير القضاء عليه، وهي محاربة الفساد ومواجهة الأجهزة الأمنية الموجودة خارج الدولة، وهو موقف من الناحية النظرية صحيح، إلا أنه طُبّق بشكل انتقائي وخارج إطار القانون، وأن كثيراً من هذه الأجهزة بقي من دون دمج في مؤسسات الدولة الرسمية لأنها تابعة للحكومة أو للدبيبة شخصياً.
وقد فجَّرت هذه الأحداث مظاهرات حاشدة طالبت الدبيبة بالاستقالة، ثم أعقبتها مظاهرات أخرى طالبت «الجميع» بالاستقالة على الطريقة اللبنانية «كلن يعني كلن»، أي المطالبة بحل كل الأجسام التي تشكلت منذ نحو 10 سنوات، وهي حكومتا طرابلس وبنغازي والبرلمان والمجلس الأعلى للدولة.
والحقيقة، أنه منذ اليوم الأول لتشكيل حكومات طرابلس وبخاصة منذ تشكيل حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج ثم حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، فإنها جميعاً فشلت في تغيير معادلة الانقسام بين الشرق والغرب، وفشلت في كل الاستحقاقات التي قالت إنها ستنجزها من إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية إلى توحيد المؤسسات، حتى تحول رئيس الحكومة الحالية طرفاً مباشراً في الصراع مع القوى الأخرى، ليس فقط في الشرق وبنغازي، إنما أيضاً داخل طرابلس نفسها ومع قوى دعمته في السابق.
والحقيقة، أنه منذ اليوم الأول للمسار السياسي الذي عرفته طرابلس وهناك «حرب» نماذج تجري بين نموذج بنغازي الذي قدمه قائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر وبين حكومات طرابلس المتتالية، وبخاصة آخر حكومتين، وأصبحت هناك سردية سياسية متكاملة يروّجها كل طرف في مواجهه الآخر.
النموذج الذي قدمه حفتر لديه بالطبع مصادر قوة داخلية ولديه دعم عربي، ولكن جانباً من القوة التي اكتسبها أو صنعها حول نفسه يرجع إلى الأزمات المتلاحقة في نموذج طرابلس وأن شعارات حكومات طرابلس برفض الحكم العسكري في بنغازي، ودفاعها عن الحكم المدني في طرابلس، لم يجلب عملياً الحكم المدني ولا الأمن، وبات من المشروع أن يعزز نموذج بنغازي قوته من خلال تعثر نموذج طرابلس.
الحقيقة أن السجال الذي يجري في أكثر من ساحة عربية حول أيهما له الأولوية، الأمن أم الديمقراطية والذي طرح في مصر عقب ثورة يناير (كانون الثاني) 2011 وطرح في السودان عقب ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، هو أيضاً أحد جوانب المعركة في ليبيا، فتجربة الجيش الوطني تقول إنه استطاع جلب الأمن وأسس لنموذج فيه جيش واحد أنهى دور الميليشيات وقضى على الإرهاب، أما نموذج حكومات طرابلس فقد فشل في جلب الأمن والديمقراطية معاً وتحولت المدينة على مدار سنوات ساحةً للاقتتال بين أطراف مسلحة وميليشيات، وتراجع دور القوى السياسية المدنية التي تزخر بها العاصمة الليبية التي كانت نقطة الضوء المشعة في نموذجها.
اشتباكات طرابلس الأخيرة عزَّزت من نموذج بنغازي بصرف النظر عن حدود تدخله في هذه الأحداث، وأن نموذج طرابلس في حاجة إلى إصلاح جراحي وتغيير فوري للحكومة، وأن صوت الشارع الذي تصدح به أحياء المدينة حقيقي ويجب الاستماع له من دون اتهام أو تخوين.
إذا استطاع الزخم الشعبي الذي تشهده العاصمة أن ينتخب حكومة جديدة تكون نواة لتوحيد المؤسسات وتوحيد الشرق والغرب، فإن هذا يعني أن النموذج المأمول في ليبيا أي بناء دولة قانون مدنية تتقدم للأمام، وأصبح بشكل عملي هو قاطرة وحدة الشرق والغرب وإعادة بناء المؤسسات، ثم بعدها تجري الانتخابات التي يتحدث عنها الجميع منذ سنوات بعد أن تكون هناك مؤسسات وطنية وإرادة دولية لفرض احترام نتائج الانتخابات على الجميع في الشرق والغرب.
نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط.