رئيس مجلس الإدارة
د. رائد العزاوي

داليا الحديدي تكتب: سرير بروكرست

نشر
الأمصار

تحكي الأسطورة اليونانية عن حداد استضاف زوارًا للمبيت بداره، وكان يخصص لهم فراشًا خاصًا، فمن زاد طوله عن قياسات الفراش، بتر الزائد من أعضائه، ومن كان أقصر مدّد أطرافه حتى تتمزق إربا. والزائر الوحيد الذي ينجو من البتر أو التمزيق هو ذاكالذي يناسب مقاسه قياسات السرير.

في واقعنا كثيرًا ما نقابل من لديه في قناعاته "سرير بروكرست"الذي يُمزق فيه أي شخص أو أي فكر لا يُطابق قياساته "سرير بروكرست".

فالبعض لديه استعدادًا أو استسهالًا لمعاداة وحشر الأفكار ومن يتبنونها في إطار أو سرير ذهني يصنعونه بقياسات هذاالحدّاد الصارم. وكل من يخرج خارج اطار قياسات السرير يمزقونه، يبترونه، أويشوهونه إجتماعياً، لينتصروا ضد كل من خالف مقاييس أسِرَّتِهم.

 

فمنذ القدم يتعلق البشر بكل ما هو موروث من فكر لإعتيادهم على قياسات الماضي والتي تروج للمشي مع القطيع. وبمرور الزمن تغدو تلك القياسات عادات يُقلدها العامة، فتمسي تقاليد لها قوة القانون، ومن يتجرأ على مناقشة تلكم القياسات يُعامل كالصابِئة.

 

ولأن قانون التغير لا يتغير، فالحياة في صيرورة دائمة سواء فيأوضاعها وقياساتها، لذا فمن الصعب الإستناد لقانون ثابت في مجارآة تلك الصيرورة. واذكر مقولة "لأوسكار وايلد" اشار فيها لكون الترزي هو الوحيد الذي تَفَهّم وتقبل تغير اراءه، فقد كانيسأله بكل مرة يقابله فيها عن مقاساته، لإدراكه أن القياسات الجسدية كما الذهنية تتغير تبعًا لتغير الظروف.

..

أذكر في صباي أني لعبت كرة السلة مع واحدة من أمهر اللاعبات في المدرسة.

وحين اردت استعراض مهاراتي أمامها لابهارها، أديت حركاتبهلوانية بالكرة بتمريرها من تحت أقدامي، وكانت تنظر لي بدهشة،وفي النهاية سألتني

: أصدقًا تتوقعين من الفريق الخصم أو حتى من فريقك أن يتركك تقومين بتلك الحركات أو حتى يسمح لك بتسديد هدف أو حتى بالإمساك بالكرة كل هذا الوقت دون مشاركة باقي اللاعبين؟

كلما مر بي العمر تيقنت أن الحياة مباراة وأن الظروف ستجعل منيشاركونك العيش سواء من فريقك أو من الفريق الخصم لن يتركوك تحقق أهدافك دون أن تتحقق لهم بالمثل مصلحة وإلا مزقوك.

فخلال مسيرة شراع العمر، تتداخل ظروف متشعبة عن قصد أو دونه فتؤثر على أهدافنا، لذلك فمثلًا: من السفه التوقع أن العمل لثمان ساعات يوميًا سيضمن لك تحقيق ثروة "ساويرس" وإن عملالأخير لست ساعات فحسب.

وحتى الصلاة لخمس بالنوافل ليست ضمينة لعلاقة مثلى مع الخالق، فهناك متغيرات أخرى تؤثر على العلاقة منها درجة صدقك وإخلاصك ومستوى عطائك وامانتك وسواه.

 

ومحاولاتك التودد لصديق أو أخ بشتى مظاهر الإهتمام ليست ضمينة لاستجابته لمحبتك، فقد تكون هناك اطراف أو ظروف أخرى تؤثر في العلاقة وإن لم تظهر على السطح كالغيرة أو التعالي.

ومحاولة بعض المختصين في التغذية حل مشكلة السمنة عن طريق ممارسة الرياضة لساعة يوميًا وتقليل جرعة الطعام مع الإتزام بسعرات محددة قد تنجح مع البعض وتفشل مع آخرين نظرًا لوجود ظروف أخرى تعيق عملية الإلتزام بالنظم الغذائية أو ممارسة الرياضة.

ومع هذا هناك من لا يزال يؤمن "بسرير بروكرست" لإنقاص الوزن،فتراه مصممًا على أن ساعة مشي مع اتباع ورقة "الرجيم" ستفضي لإنقاص الوزن.

وحين يفشل مريض السمنة، يُحكَم عليه بضعف الإرادة بالمقارنة بينه وبين من استطاع انقاص وزنه سريعُا.

حقيقة الأمر ان القاياسات الفكرية التي تجعلك تتوقع أن تقليل الطعام مع اتباع حمية غذائية ضمينة لحل معضلة الوزن الزائذ لا تنظر بعين الإعتبار لظروف عديدة قد تغيب عنك بسبب اعتناقك لفكرة "سرير بروكست" التي تقسر اسباب السمنة للإفراط في الطعام وعدم الحركة. بينما ثمة مؤثرات أخرى منها على سبيل المثال: مدى مقاومة الجسم للانسولين، ومنها أيضُا العمر، وبالنسبة للإناث، مدى اقترابهن من مرحلة إنقطاع الطمث التي تؤثر على عملية الأيض ما يبطئ الحرق، ومنها قدرة الفرد على المثابرة على اداء رياضة منتظمة بالنظر لظروفه المادية التي قد تعيقه من الإشتراك في نادي رياضي أو تعسر عليه توفير أغذية وأدوية الحمية أو ظروفه الأسرية التي قد تحرمه من ممارسة الرياضة بالنوادي منعًا للإختلاط أو تحت ضغوط تترجم اهتمام المرأة بجسدها برغبتها في الإغواء.

كما أن وجود حافز من عدمه ينهض كظرف مؤثر. ومنها كذلك وجودالمريض في أسرة داعمة تمنع تداول الكاربوهيدريت والسكريات أو وجوده في وسط يمرر لك الحلويات بإنتظام. فمن يعيش بين عائلة لها وعي صحي يعيش ظرفًا أسهل من الذي يحيا في وسط يدس له كميات مهولة من السكر في طعامه منذ الصغر، كالذي يتمارضاعه بالحليب الصناعي المضاف له سكريات والتي لها أثر على مضاعفة الخلايا الدهنية في جسده وبالتالي فسينشأ طفل جسده لديه مقاومة للاسنولين للأبد، علما بأن مقاومة الأنسولين تصيب الإنسان بالشره و إدمان الطعام، فيقع في دوامة عدم وصوله لنقطة الشبع كما تقلل من مستوى الحرق وتخزن الدهون على الكلى. أيضًا تورث المريض ضعفًا في النظر وعددًا من الأمراض الجلدية، كما تضعف تركيزه وقد تؤدي على المدى الطويل إلى تكيس المبايض لدى الاناث. عدا التاثير على عمل الغدة الكظرية ما يدهور الوضع الصحي برمته لمريض السمنة.

ما سبق يجعل من السفه مقارنة فرد نجح في خفض عشرينكيلوجرامًا من وزنه خلال أربعة اشهر لأن زيادة وزنه كانت طارئة بسبب مكوثه في البيت إلتزامًا بالإجراءات الاحترازية للوباء وبين آخر يُعاني لعقود لظروف متشعبة، ثم يأتي سفيهًا يَحكم عليه في اطار مقاييس وهمية "لسرير بروكرست".