رئيس مجلس الإدارة
د. رائد العزاوي

داليا الحديدي تكتب: دموع المحاربين القدامى

نشر
الأمصار

كانت مُهمَتي تَقتصر على القَبض بِكِلتا يديَّ على السُلَّم لتثبيته، ليَسْلم من السقوط حال قِيَامِه بِتَصليح دَوَاية كهربائية مُعَلَقة بالسَقْف.
ولكم هاجمني شُعور خَفي وحَقير فِي الصِغَر، أن لرُبما سَيَقع، لا اعرف ما الذي أوْصَل فِكري لتِلك المَوَاصِيل! بلى أعلم، إنه التعلق بطوق نجاة من رُهَاب القَسْوة، والأخِيرة كانت الدَافع الذي طالما افضي بنا للتلذُذِ -أنا وأخي- بإلحاق الضرر به. فعكس كل ما كان ينويه، كنا نأتيه.
فإن تَعَسّر في العُثُور على مَكَانٍ لصَفِ سَيارتِهِ واضطّرَ للوقوفِ في المَمْنُوع، أوصَانا أن إذا ما مَرّ شرطيّ، فلنخطره أنه سيعود في التو.
وما أن يلوي، تُفتش أعيننا عن شرطيّ، نُنَاديه 
:عمو،عمو، والدنا يَقِف في المَمْنوع، وسَيَتأخر، حَرِرْ ضِدَهُ مُخَالفة.
يَضْحَك الشرطي مِلء شِدْقَيه، رَافضاً طلبنا!
■ ■ ■
وكانت والدتي تُنافح عنه:لا تَنْس أنه مِنَ المُحَاربين القُدَامى، بل تَعزو وَلعه بالنِظام لكونه -أيضًا- من المُحَاربين القُدَامى، على أني لم أُبصر عِلاقة بَينَ أن يكون والدُك مِنَ المُحَاربين القُدامي وبين أن تَعيش طقوسًا قاتمة مِنَ الصَرامة الضَريرة الذَاخَرة بحَفَلاتِ عُنفٍ مُدْويةٍ تَتْرُكك مُنْغَمِس في الكَدر برُكنٍ دَامسٍ في الأغوار.
Obviously, my father was a quite remarkable man about whom I didn’t know quite much since he was not verbally expressive 
فمثلاً، كنت ألمس اِفْتِنَان الوالد بالنظام بشكل "اورثوزوكسي"، لكن عُمراً قضى قَبل أن يَصِلني أنه أحد ضَحَايا الوِسوَاس القَهْري الخاص بالتنظيم
(OCD) 
هذا النوع يُورِث المُصَاب اِضطراباً، إذ ينفرط زِمَامه مَا لمْ يَجِد الكون مَنْحُوت بمقاييس (أيزو) تُرضي تَوَقعاتِه.
الحَزمُ دِينُ العسكَر
شَاهدتُك خَمْر مُنْفَجِر 
من قنينة نَبيذ مُكَرر 
في اليقظة تَرتَجِلُ العُنْف
وفي الكرى تَتَوَسدُ خِنْجَر
■ ■ ■
شريط نوفالجين
طباع الجنرال كانت مَوضِع تَفَاكُه بين المَعَارِف سيّما لتَخْصِيصه فُرشاه لتمشيط شراشيب السِجّاد، لولعه بتلميع رِواق البَيت مِراراً، أو لتمَلُحه مع أمي إن تشَاركا في شريط "نوفالجين"، فهي تناول حبة من هنا وأخرى من هناك، فيما يريد رؤية الحبوب كقِطَع الضامة حين تتساقط بإنسيابية.
هذا ولم نَذْكُر عِشقه لتَرتيب مَضْجَعه، فالملائة مشدودة كأعصاب صعيدي طُعِنَ في شَرَفِه، يتراجع خُطوَاتٍ لتأمل الفِرَاش كلوحةٍ يَضْع عليها "مونيه" لَمَسَاتِه الأخيرة. وأهٍ لو وضِعَت البُسُط بِزَاوية مَائِلة، فالزَخَارِف مُطالبة بالإستِقامة كما الأخلاق.
وقد نَزور أصدِقاء للعَائِلة، فتبدو على الوالد أَمَارات القَلَق، فينتَفِض بَغتةً مُنْدفعاً لضبطِ لَوحَة مَائلة نِصْف سم، ليعود بَعد زَفرة كمن أُنْقِذ مِنَ الغَرق. عدا أن خزانة ملابِسِهِ كانت مزارًا سياحيًا للبَعْض. وكان لديه جَارُور لصَفِّ المَسَامِير وِفقاً لتَرَاتُبية الطول. 
كان الجنرال ينام "على سيفه" بوضعية تُشبه ضِلعيّ مُثَلْث قائم الزاوية بدون "الوتر". فالبدن حتى ِمشط القدم مفرود، فيما ذِراعه مُمَدَدَة تَحْتَ رَأسِه كبُندُقية، بينما الأصَابِع مضمُومَتَان كإخوة لم يفرقهم الإرث، بينما الذراع الآخر مَشدود على الأفخاذ كأوتار قيثارة حَدِيثة الدوزنة.
وكان يصرف لإثنين من الكناسين مُخصصات شَهرية لتُنْظِيف مُحِيط السَكَنْ.
وحين دَخَل يومًا مخدعي، هاله رؤية فنجانًا من الكاكاو بِجِوَارِي.
:أنت قلبتيها قهوة؟ ثم أخطرني بأن :"لديك تفتيش باكر يا عسكري".
: أنا داليا يا جنرال!
ما هو مُراد الأقدار في أن تَخْرِج إِبنة بهذا المَنسوب الهَائِل من الفَوْضى من صُلْب وحدة نِظام عَسْكَرية لا تُرخي الزِمَام!
فكيف لمن يَتْلوا تَعويذة النظَام ويَشْدو بتَرَانِيم الإلتزام العَيش مَعَ إحدى ضَحَايا اضطِراب فَرْط الحركة وضَعْف التَركيز؟
ماذا أراد الخالق حين جعلني ابنتك؟
كيف لخِطةٍ مُحْكَمةٍ أن تُسْفِرَ عن فَوضَى عَارِمة؟ كيف لصُلبٍ أن يُنتِجَ فِكرة؟ أنّى لبندقيةٍ أن تُطْلِقَ قُبلة؟ متى أنجَبَ وَردٍ زَهرة؟ كيف لمُرشدٍ أن يَلدَ شَرده؟ كيفَ يَخْرُجَ مِن نَسْل قَائدٍ هِرّة؟ مذ متى يمطر الرَعد كَرزَة؟ ولما صَدَر عَن القَانُون نُكتة؟ كيف أورَقَت الأحْلَام مِن تُربةٍ صَلدة؟ ولمَ لمْ تَحذُف قَوَاعِد النَحْو حَرْفَ العِلّة؟ أراد القائِد سَيفَاً للنوائِبِ، فاهداهُ الدَهر قُطنة.
- تَتَداعى عَلىّ الذكريات، فهذا(عم طه) الطاعن في السِن، والذي اقتصر عَمله على شِرَاء الطلبات، كان يَنام في مخزن حديد خاص بالعائلة، يَقع على مَرْمَى أمتارٍ خَلف دَرانا، وكانت الأوامِر تَقضْي بتَوَاجده في السادسة وأربع دقائق بالجُمَع لِشِرَاء الفطور، وحين يتأخر، يناديه الجِنرال من الشُرْفة، فلا يَرُد، فيُعَاود النِداء مِرَاراً، حتى يَتَبَدد صَبر والدي، فيُمْسِك ببندقية الصَيْد ليُصَوِب طَلقة فَارِغة لبَوَابَة المَخْزَن الحَديدية، فينتفض "عم طه" مذعوراً!
■ ■ ■
"كول ريفيريه"
أما يوم صاحبني لطبيب الأسنان، فقد غيّر مَسَارِه بطريق العودة، بإتجاه مشفى الطيران، وكان الجو تموزيًا، قَائِظاَ، فرجوته عدم الإنتظار بالسيارة، فحدجني بنظرة فاحِصة، ثم انفجر
: كيف تقابلين زملائي وملابسك على هذا النحو؟
: أي نحو؟ وماذا ترتدي العشرينية سوى بِنْطَال"جينز" وقميص مشجر بالسَعَادة؟ 
: أنت لا ترتدين "كول ريفيريه"
وكانت شَريعة الوَالِد تُحُتم على الأنثى المُنْضَبِطَة أن تَكُون نَيّقَة باالتقيد "بالكول ريفيريه"!
بالنهاية، وافق مُمتعضاً على اصطحابي.
بالمشفى، شرع يَجُوس الرُدْهَة ذِهَاباً وإياباً بإنتظارِ إنتهاء بَعض الإجرَاءات. ثم امتقع لونه ليباغتني 
:اختف من أمامي!
:ماذا؟
:قلت اختف الآن خلف السُلّم، هناك، هناك، وأشار بيديه كمن يَهُش هاموشاً، تَماماً كأحمد مظهر في "الأيدي الناعمة".
لقد لَمَحْت زَمِيلًا لي، ولن أسمح بأن يُقابِلك بدون "كول ريفيريه"، اختف وإلا أخبرته أنك الخَادمة!
عدت لهَشَاشتي القَديمة فأسلمت العَنْان للتيّارْ وانسحبت مَصدُومة، لكنّي آسِفت لضعفي، وزفرت، لكن ما جدوى زوافري. 
لزمت ركنًا قَصِيًّا لأغرق في ضَحِك مَكتوم مِن تِلك المَلهاة السَوداء التي يَطفو مِنها شَبْح كِبريَائي بَين فَيض مَدَامِع طردتها مقلتي. ثم ذبت بكِبر مستور في سكون صَارِخ: قسوتك عَلقَم، وذاكرتي وعاء.
■ ■ ■
كرز الشام
للإنصاف، وبالرغم من صَقِيع طفولتي، إلا أنى عِشتُ في حُقول والدي مَوَاسم رَبيعية مَشمِسَة أشبعتني عافية وكِبْريَاء المقاومة.  فغمسة في فرات حضنه تنسي عَنْت الدهور، ورشفة من شَهدِ ثَغْرِه تُحَلي ماء البحور، وجلسة بمَقْرُبةٍ، تُغني عن إرتداء العطور.
كان القَرْحُ والبَعُوض، كان التِرْيَاق والضِّمادُ، كان الشيطان والمعْبود. 
حُلْوِهِ ككَرزِ الشام يُخضب الحَشَا، لكِنّ بَطْشِه كَشَوْكِ الفَيَافي يُدْمِيه.

عصيّ هواك يا أبتِ

لم اذكر مَحَاسن والدي لعجزي عن الإحصاء، لكني تَوَقفت لدى قدرته على عَدَم إدعاء مزاولة القِرَاءة، ودُهِشتُ للسهولة التي كان يقول بها: لا أعْلَم.
فلم يَقَعْ فِي فَخِ عُبُودِية وَثَن الإدعاء، وأشكر له أنه تَحَدَثَ مَعَنا أككثر مِمّا تَحَدَثَ عنّا، في زَمن دَرَجَ فيه الأباء التحدث عن أبنائهم، لا معهم. كما التَفتُ لقدرته عَلَى الرَفْض، فعِزَته كانت مَنِيعة لم تُقَوِّدُهَا الدَنَانِير. ثم أنه أَول مَن راقصني "فالس" حين كُنْتُ أعُدّ عُمري على أصابعي. وأول من خرجت معه وحدي للسينما وقد حجز كرسي إضافي كي لا يجاورني بشر سواه.
وألف أواه لو مَرِضت، عندئذ، كان يَصُبَّ عَليّ شَلَالَات الرِفْق المستَورَدة مِنَ السَمَاء.

-عصيّ هواك يا أبتِ، يُقْصِر التَضْمِيد على جَرْحَي السِنان، أما مَن اضطُّرَ في مَخْمَصَةِ رَحْمَة، أفلا تَجُود عَليه بِكَسرة رأفة لقوتِ القلوب؟
ولكم تَمَارضنا، علنا نَسْتَقْطِرُ مِن عَينَيك قُبْلَة، لعلك تُبلسِم بيَدَيك رَبْتَة، لكِنَك عن دين الحَزْم ما صبأت.. إلا سَاعَةَ أزْمَة.

سِفْر الخروج
- مُحَرِك عَرَبَة الجِنرال كان مُعَقَمًا بذات طهارة صَالون السيّارة، إِذ كَان يَخُص"الشيفورليه" بِساعةٍ مِن صَبَاحَاتِهِ أو اصَالِه للإشْرَافِ عَلى أناقتها ومراقبة الزيت،المياه والكشف على العجل، "الجنوط"، "البوجيهات والأبلتين".
وكان يتندر لكون والدتي:"تضَع المفتاح في الكونتاكت وتمضي"، فيما المسكينة تُؤكِد أنها لم تُقلِع إلا بُعَيد تِلاوة سِفْر الخروج.
وكان تَنَاول الطَعَام في مَرْكَبَتِه ضَرْبَاً مِنَ المُسْتَحِيلَات.
- صَبِيةَ كنت حِين شَبّت في نَفسْي رَغْبَة في مُقارفة طَيْش، فتقرر فَصْلي لثلاثةِ أيامٍ مِنَ المَدْرَسَة. وقد سَمِعت خوافقي تَدق حِينَ نَبَا لِعِلمي تَوَاجد الوَالِد بِمَكْتب المُدِيرة طالبًا مُضَاعَفَة العقُوبَة لأسبُوع. 
كان الهَلَع سَيّد الحُضور، فَزِعْت يَومَهَا مِنَ الدفتر والقلم، خشبت من الحبر، من البرجل، الممحاة والطبشور، خلتهم خناجر، قنابل، دماء، سمعتهم شهادة زور. فلُذت "بمار سان ميشيل" الراهبة الأشد حَزْمَاً في مدرستي، حين رأيتها تُنَافِح عني بما أوتِيَت مِن رَحَمَاتٍ مُحَاوِلةً امتصَاص غَضَب الجنرال. وكانت نجلاء، قصيرة مع بدَانة، فعاينت رَعشة جَسَدَهَا وسَمِعْت أنفاسها المُنْفَعِلة حين سألته:
كيف تريدني أن أساوى بينها وبين أخريات امتهن اِقترَاف الأخطَاء، إنها أول هفواتها - لم تكن هفوة- فلم تَضَع يومًا المساحيق وملابسها منضبطة ولم تتهرب من المدرسة وسِجِلّها نَظِيف وان كنت تنتصر لل
Discipline
فاختصاصي هو مُرَاقَبة إلتزام الطالبات، وهي لا تحيد. ولو مُصَمم على الرَفد، فقد صَدَرَ القَرَار، لكني سألتمس من المديرة أن يكون مع وَقْفِ التَنْفيذ ليبقى مَلَفِها ناصعاً. 
لقد قلَبَت الرَاهِبة كل الموَازين، فتِلكَ التي طالما نَعَتْناها بالقسوة راحت تَتَرافع عني حين شعرت أنني قاب قوسين من مرمى المِقْصَلة، لم تأبه لبَدْلَته المُدَجَجَة بالنياشين. بل جَعَلتني خَلفَها أَنجو بِها وَأَختَبي، وسعت للَفْت نَظَرِه لعواقِب الشِدّة مع الإشارة لسِجِل ابنته التي وصفته بأنه.
Immaculee
وانهت حديثها بنظرة اِستِكانة ضارعة –تعجز الأبجديات عن التعبير عنها- كأنما تستوهبه العفو، وصَدَرَت عنها عِبارة عَصيَّة عَلى النِسْيان 
:أنا آخر من تَسمح بالتَسَيُّب، لكنها مُجَرد هفوة، فلا تقسو، وسامح، فأبناء المعنفين يعانون مخمصة للحنان، ما يضطَرُهم للتَقْوُتِ مِن مَزَابل العِلاقات السامة. 
واللافت.. أنه فَعَل.
وقد صَدَقت فأبناء القُسُاة يَسْهُل قَدّ قَميصُهم مِن قُبُلٍ أمَام شَهوة الرَحمَة. 
سلام سلاح
- وتِلْكَ حَادِثَة وَقَعَت بإحدى قواعِد المَصَايف الخَاصة بالطيّارين. أوقف والدي السيّارة على البوابة مُتَحَفِزاً، وقد ازدَحَم الدَم بوجهِهِ لتَصَيُدِ خَطأ، إلى أن سَأله الجُنْدي عَن كَلِمَة السِرّ. هُنالك هَجَمت إبتسامة على ثَغْرِ الجنرال، ثم سمعت دَويّ بُوْق، إذ قَدّم له أحَد الجنود التَحية العسكَرية "سلام سلاح" المكون من أربع حركات.
كانَ الجندي وَاقِافاً بِوضع الاِستِعْدَاد، واضِعاً البُنْدقيّة أرضَاً حَد ذِرَاعِه الأيسر
رفع السِلاح مِن أسفَل قدَمِه إليه، فأمسَك البندقية مِن المقبض السُفلي، وإتجاه السبَطانه لأعلى.
ثم حَرّكَ الآلة سَريعًا للجِهةِ اليُمْنَى من صَدره بزاوية 45 دَرَجَة، وعِنْدَ قِيَامْه بِضَرْبِ الجَانب الخَشبي أسفل البندقية أو ما يعرف بالربت (الضرب بواسطة اليد اليمنى)
كسر العسكري الخشبة المتينة أسفل البندقية إمعاناً في تقديم تحية عسكرية جادة!
خَشيت على الجندي عندما نَزَل الجنرال من مركبته متجهًا نحوه. لكن للغرابة، رَبَت على كَتِفِه، شَكَرَه ثم تحدث معه قليلاً ليهدئ من روعه!
رأيت في فعلة العسكري تمام النِفَاق وصَرّحْت أمَام جُنْدي آخر أنّه لم يَرُق لي التَبْجِيل المُغَالى المُقَدَم لوَالدِي.

- أبداً، إنه لا ينافقه، بل يُكبِره وقد رُزِق بطِفلِ مذ شهرين فسماه "وليد" تيمُناً بإسم بن الحِبّ. 
- يا رجل، أي حب تهديه لمَن يؤمن بقدرته على اخضاع سلوك العَالم بهراوتهِ؟ إنك إذن تُشَرْعِن له قاعدة للبطش. كيف تتقردح فتَرْضَى بمُعَامَلة على هذا النحو؟
-ساء ما تصفين، ليت سائر الضباط يعاملوننا على هذا النحو؟
- ألا تَعْلَم أنه عسكريّ النَزْعَة حتى آخر رَصَاصة، ومهما فعلتم، فلن يُلَوِحَ بالإغْرَاء بومضة تقدير هنا أو بريق تَعَاطُف هناك، فالحزم دين العسكر.
- أرك تُرَادفين بين حَزم وقَسوة، وأنا لا أجيد القراءة والكتابة، فلم أتعلم مثلك بمدارس نخبوية، لكني أقرأ أبجدية شخضيته بدون تَلَعْثُم. فهو يتعمد مشاركتنا الغذاء في "الميس" لمُرَاقَبة الطعام المقدم للجنود، كما أنه لا ينصر باغي ليَرْمي أعزل، ويتفقدنا ليلاً في الشتاء كأننا أبنائه، ويشتاط لو لم يتوفر لنا الماء الساخن وسائر الخدمات. وهذا العسكري الذي وصمتيه بالنفاق قد كسر بندقيته آن التحية لأنه مُنْفَعِل بِقَلْبِه، لسفر والدك للصَعِيد حين عَلِم بمَرَض والده، فَوَصَّى الأطباء على المريض ومنح الجُنْدي عُطْلة وبَعض المال، فيما اكتفى عَمّ العسكري بِطَلَب منديل من رائحة الغالي .. يشتمّه!
إننا مجبرون على إحترام جميع الضباط، لكننا لسنا مضطرين لمحبة أحَدِهم إلا لو كان جديرًا بعواطفنا.

زيارة الحسين
أمّا زيارات جَدّي لنا بِالقَاهرة فتَحْتل كَيَاني، فقد كان مواظباً على زِيَارة الأضرِحَة. 
خرجنا معه يوماً للحسين، وكان يستَاء من سُرعة والدي ويطالبه بالتَرَوّي، فيما كان الوالد يَبْتَسِم ويَزِيد السُرْعة، وحين طَفّ الصَاع، انفعل جَدي 
:قف يا محمود، أنت فاكرها طيارة! ومضى مغاضباً
-ثانيًا للحسين، يومها فَتحت والدتي الباب الأمامي ليجلس بابا جدو، فرفض مُفَضِلًأ المَقَاعِد الخَلْفِيّة وَسَطَ أحفَادِه، واخرج من جيبه حَلْوى هشة "كورونا" لها غُلاف أزرق مفضض يحدث حفيف ساعة فتحه، فيفضح آكله. 
حاولوا فتْحِهَا بهدوء يا أولاد: هذا ما أسّرنا به بابا جدو، كما شاهدناه يَنْضُو الغُلاَف عَن الحَلوى بحِرْص، يتَحَرى عَدَم إحداث صَوت كي لا يعلم إبنه بتَنَاوله الحَلوى مع أحفاده بسيّارَتِه. وحين تَهَاوت عَلى مَلَابِسِنا هشيم الحلوى، نَظَر جَدّي إلينا بِهَلَع، وحَرّكَ كِلتَا يديه يَحُثنَا أَن نَنْفُض عَنّا الرَقَائِقَ المُهَشَمَة كي لا يُفْتَضح أمرَه أمَام اِبنه.
هنالك التقت عينيّ المفتوحتان بعينيّ أخي من هول الفَجِيعَة حِينَ أدرَكْنَا أن جَدُّنَا يَهَاب اِبنه.
بعدها تلك الواقعة بيومين، كنت العب بلوح من "الأردواز" ومعي طبشور، فعنّفني الجنرال لإستيائه من اصابعي المُتَسِخَة، كما نَهَاني بِنَبْرَةٍ آمِرَةٍ تفيض كِبرًا عن أن أموسق صوتي أثناء المحادثات، وتوعدني بحديث تبدو فيه علائم الجد 
: سأعاملك معاملة الزنوج وساسحلك و... 
لم أكن أنتوي مقارفة وقاحة، مع هذا، حَمَل رَدي في طَيّاتِه لَسْعة عداء
:أعلم أنك تُجِيد تَسْديد أحجارك، اخبَط خَبط عشواء، فأنت لا تحتاج للبحث لبطشك عن ذريعة، وعموماً، لم اتوقع أن تكون الأب الذي يُهَدْهِد بالأَهَازِيج، بل أتوقع أن يَنْهَض اختياري لرقم شَفع ذَرِيعَة لِغَضَبِك لو أردته أنت وترًا.
فلستَ بِحَاجَة لتَعِلّاَتٍ لمُمَارَسَةِ الإِمَارَة. لكنني -على الأقل- اِبْنَتَك، أما الكَارِثة أنّ –حتى- أبَاكَ يَخَافِك.
القَيْت عَلْيه الكلمة بِنَبْرَة وَاثِقَة.
طنّ صَوتي في أُذُنِه مِن هَوْل جَرْأتي، فَتَرَاجع خَطوَةً وتَصَدَع عَاجزاً عن أن يَنْبُس بِحَرْفِ.
اقتربت اكثر وكررتها: وَالِدكَ يَخَاف مِنْك.
ظل يتراجع حتي خَرَج ولمْ يَصفِق البَاب خَلفِه.
مُلئت افتناناً برؤية تقهقره أمامي. ونمت مُنْتَصِرة.
من يومها،اعتَنَقت عقيدة أن والدي نبيّ الصَرَامَة، لقِلة إحتفاله بعواطفه كما كنت أحسب أنه لا يرأف بمسن وإن عُنوِن من المُحَاربين القُدَامي.
ثم زَارَنا جَدي ثَالثةً كَمَحَطة إنطلاق لرِحْلَتِه للحَجِ. فنَزَل ببيتِ إبنهِ عَشية السَفَر.
ظلّ طَوَالَ الليل سهرانًا، اغفو واصحو لأجده جالسًا على فِراشِه.
: لن تستطيع النوم يا بابا جدو، أنا مثلك، لا تَأخذني سِّنَةُ عَشِية الرحلات  المدرَسيّة.
: بن أدم في الكبر، قَلّما يَنَام. 
اشفقت عليه من الوحدة، فرحت أسَامِرَه، فتارة يُسمعني أبيات للمتنبي، وتارة يَستعرض معلوماته عن تصريف فعل "افوار". 
دموع في عيون صلبة
في الصباح، عاد والدي عقب اطمئنانه على إقلاع طائرة جدي ليجد أمي دامعة.
سألها عما بها، ظلّت ترد وتراود بحديث محشو باستطرادات حتى أفضت لكونها تَتُوق للّحَجِ، سيما بُعَيدَ اتصال تانت هدى بها والتي يعمل زوجها (أعز أصدقاء والدي الدكتور عبد الفتاح طاهر) بجامعة أم القرى لتُخبِرَهَا بسفرها للحج.
أفادها الوالد أنه يشتاق لأداء الفريضة، لكن كُلفة الرحلة وصعوبة استخراج التأشيرة تحولان دون إتمام الأمر.
صَمتت وكانت من نوعية النساء اللائي يستخدمن نظرات الإرتباك والتلعثم وسائر فنون لغة الجسد في الرد المدوي الذي يُشْعِر المُخَاطَب بالذَنبِ.
بعد يومين، هاتف والدي موظفًا مِن القنصُلية السَعوديّة.
عَقِب الإتِصال، دَخل الجنرال غرفته لفترة، ثم خَرَج وفي يده حَقِيبة صَغِيرة لجوازات السَفَر. 
فالموظف أخطر والدي بحَتْميّة حُضورِه لإسْتِلام خِطاب "الزيارة" المُرسَل من الدكتور عبد الفتاح، وهو إذن إقامة في المملكة، يوزاي التأشيرة. ثم اتصل "أنكل فتحي" بوالدي ليخبره أنه فضّل إرسال الدعوة دون إخطاره لوأدِ المَعَاذير، والَحّ في بَذل ما في وسْعِه لأنَّ بيتهِ في مكةِ يتهيأ لإستقبالهما.
أجرى الوالد عدة اتصالات للحصول على اجازة وإذن للسفر ثم خَرَج قاصداً القنصلية، وبعد إستِلامه أوراق الدعوة، أفاده الموَظَف بِحَتميّة حَجْز التَذَاكر اليوم لأن غداً هو آخر موعد للرحلات الجوية، فدار الوالد على معظم شَرِكَات السياحة حتى تَمَكن من اقتناص آخر تذكرتين، بعد أن اخبرته الموظفة أنَّ الطائرة ستُقلع عند منتصف الليل.
أفاد الوالد الموظفة أنه مُثْقل بمشاوير تتعلق بتحويل العملة وشراء ملابس الإحارم، وطلب منها الإتصال بزوجته لتبلغها بضرورة الجهوزية للسفر.
: لما لا تهاتفها أنت؟ قالتها الموظفة
تَعَلل بِضِيق الوقت وعدم إستعداده للرَدِ على الأسئلة التي ستنهال عليه. 
لاحقًا، أكد لي أنه كان غاضبًا لأن المشهد سيبدوا أمام والده كأن البكري أخفى خبرية الحج وسافر دون إخطار والده المسن، ما يعني تهربه من مساندة من سانده طوال عمره .
:كنت متأكد أن بابا سيغضب مني ولن يُقَدِر أنّ المَوْضوع جَاء فَجْأة. أنا نفسي كنت غاضب مِنَ الوضع برمته. لكم كنت احتاج لمصاحبته لأدفع عنه الكرسي المُدَولَب واحميه مِن تَخَطي الرِقَاب.
ثم استفاض في وصف كيف بحث عنه أثناء الشعائر في مكة، منى والمزدلفة، وعلى جبل عرفات، امسك بصورة له، وسأل الناس عنه. 
لم يُوفّق الجنرال في العثور على جَدّي وعاد بعد اتمام الشعائر لمصر، لكن ما أن أَوصَلَ أمي للدار حتى نَزَل مِنْ فَوره. لم يُسَلّم، ولم يُعَانِق عِناقه الذي يُهَشِّم الضلوع. فَقَد أخَذَ "الشيفورليه" وطار إلى المنصورة حيث دار جدي. 
عاد الجنرال ليلاً فاستقبلته بعيون شرهة للفضول.
-بدا حزيناً، مثقلاً، رمي المفاتيح وهدايا من الحَج اعطاها له جَدي، ثم نضى عنه ثيابه ونام على سيفه، لكنه اخفي وجهه بِذِرَاعِه.
أبكى؟ 
أكان يخفي دَمْعَة؟
لا تًكاتم مالح الدمع با أبي، أفصح، فالحُزْن يُبَلسِمه البَوَاح.
كانت أول مرة أتَعَاطف مَعَه، إذ لَمَست صِدْق إجلاَلِه لِوَالدِهِ. 
ساعتئذ، أيقنت أني أخطأت حين تصورته عَجيف الفؤاد، يفرض على سواه المسير والمصير. ربما خدعتني أمارات حَزْمٍ أبيّة، عجزت عن إعرابها قواعد الأبجدية.
-لدى سماع زئيره لكثر ما تجَامَحْتُ، لكن يَومَ أنْصَت لوهن صهيله، تَسَامحتُ.
-لم التزم يوماً بإرتداء "الكول ريفيريه"، لكني لم أعد أموسق صوتي، ومُذ ذاك اليوم، لم أتَخط والدي أبداً، بل بت أتبعه حتى لدى قيادتي لسيارتي.
سبطك سميك
-مذ ذلك اليوم صِرتُ أقف مًقبضة بروحي على السُلَّم ليَسْلم من السقوط. وإن نادى أخي، أسابقه لنيل شرف مُسَاعدة مُحَاِرب مِن المُحَاربين القُدَامى.
أَبَتِ:
كنت بتاريخ الأمس ارتعد لقرارات تصدر مِن قلمك بجرة، حتى أيقنت أن حُضْنَك هو المآوى وأنك ملاذي لو اردت العيش حُرّة. 
-لكم تَمردت لأكون كل ما ليس أنت، لكن حين اعتراني صَهْدَ الفقد، احتميت بإسمك مظلة.
- كل زهوي أنت، وبيتُنا غِمد الذكريات، يقطعُ حُسام الماضي خاصرة حاضري، فأكره أن أستّلَه.
- اتلو آيات المحبة من سِفْر التَكْوين حَتى الخروج، أصلي، فبكل زاوية في الدَار لك قِبْلة.
- ذكراك دمغة تُثْري سِلسَال ذُريتي، ذَرة تَخْلُف ذَرة. وَددت لو حَبَاك الحَظ نَردَين، ليتَ الدَهْرَ اهدَاك عُمْرَين، عُمراً لي، وآخر لبَرَاعِم أسباط صِيغوا مِن جذوعك.
-صورك إبرة ترياق، تُرَتق يَومي، وتَرفو غَدِ. 
-يبتزني الشوق لأماسيّ سكونك، لثوراتِ صَبَاحاتك ولمُنَاسَبَاتِ المَسَرّة، فأُعَاقر كَأس الكَرى، أستَحْلِب من الرؤى مُسْكِرَات أمآل حُلْوة مُضِلة، تُدير الحَاضِرَ إلى الوَراء. 
-يعربدني الحنين أمام صورة لبقعة سمراء بمِعْصَمِك، فتُحيّة لصَوْتَك المُسَجَل حِين يَسْبَح بسلاسةِ بأسلاك جوالك القديم. وكل التحايا لصمتك في الثرى.
-سبطك محمود سميّك. نُسْخَة مِنك إن أنت رُحتُ. أما أنا فعَبير مِن صُلبِكَ، ومن صُلبِك أنا فُحْتُ.
-برمضان وبغير رمضان مطالبة بالصوم عن وصلك، لا طاقة لي لتلك الشرائع.
في العشرين من ابريل، حلّت ذكرى ميلادك، أوصدت باب مَخْدَعي، وقفت قُبالة المرآة ممسكة بِبُنْدقيّة الصيد الخاصة بإبني. . وضعتها أرضاً بجانب يدي اليُسرى، رفعت السلاح من أسفل قدمي، فأمسكته من المقبض السفلي.
حركت البندقية سريعاً لجهة صدري الأيمن بزاوية 45 درجة 
قمت بضرب الجانب الخشبي أسفل البندقية .. قذفتها من قلبي بصوت جهوري
سلام سلاح
وَدَدْتُ كسر الخشبة المَتينة أسفل البندقية إمعاناً في تحية عسكرية تَلِيق بمُحَارب مِنَ المُحاربين القدامى!