رئيس مجلس الإدارة
د. رائد العزاوي

سلام مسافر يكتب: اغتيال كتاب

نشر
الأمصار

يحتاج المرء الى معدة مِقرّاء ليستوعب زخم الافكار والمعارف الحافل بها كتاب فالح مهدي " استقراء  ونقد الفكر الشيعي" الذي إرتكب جهاز أمن الحثالة الحاكمة في العراق، جريمة اغتيال المطبوع من معرض بغداد  الدولي للكتاب . 
ولو اتيحت لمليشيات المنطقة الخضراء الفرصة فانها ستغتال المؤلف صاحب  البحث التاسيسي " مقالة في السفالة ".و يرسم فيه الكاتب الرصين صورة دقيقة للزمر الحاكمة في العراق بعد الاحتلال باستقصاء تاريخي إجتماعي يمتد لما قبله.

يفكك" استقراء ونقد الفكر الشيعي" الخرافات المذهبية والأساطير الشعبية والمقولات المبرقعة بالقومية؛ محللا عبر الوقائع التاريخية و بالاستناد الى مراجع ومصادر عربية وعالمية خرافة التفوق الفارسي، بدءا بالدلالات المعجمية مرورا بالتحام اللغة والفكر وصولا الى المفاضلة بين متانة ورقي اللغة العربية وركاكة وضعف الفارسية في مختلف تجلياتها ليس من منطلق شوفيني؛ بل للتدليل على غياب العقل لدى المتمذهبين العرب ممن ينظرون الى الفرس حملة شعارات ال البيت على انهم المثل الاعلى.

يربط الدكتور فالح مهدي في سردية تقترب من حرفية   الروائي بين الذاتي والموضوعي عن تجربته الخاصة في بيت أسرته وما يحيط بالمجتمعات العراقية من تاثير للقيم والتقاليد المذهبية خارج القياسات المنطقية، ويفتح نافذة واسعة تستند الى خزين معرفي ثري ومصادر نقّب بين متونها عن الجذور الموغلة في القدم لحضارات الهلال الخصيب ووادي الرافدين، دون ان يثقل على القارئ غير المتخصص، بالاستعارات والتركيبات المعقدة تاركا له  فرصة اختيار قناعاته في ضوء سيل متدفق من الحقائق؛ تجهلها الغالبية الساحقة ممن ترى في التمذهب، طقوسا تنطلق وتنتهي بالعويل وشق الصدور و شج  الرؤوس. 
يتنقل فالح مهدي بين الاراميين، ولغتهم ومكانتهم في الخارطة الحضارية للعالم، ويناقش بسلاسة موضوعة الأرض باعتبارها مرتكزا للقومية ليصل الى استنتاج سبقه اليه علماء مبرزون بان إيران أمة وليست إمبراطورية وان للغة العربية تاثير يصفه بالمذهل على الفارسية دون ان ينتقص من الكرامة الفارسية او يحرض عليها.

يبحث الكتاب في وقائع العراق المُفرس وفي الف ليلة وليلة ومنابعها وفي الكوفة باعتباره تحمل براءة التشيع فمنها انطلقت أولى تدفقات الاجتهاد الشيعي والى الدور الاجتماعي والسياسي لمساجدها ومن ثم تدهور الكوفة إثر تاسيس بغداد ويرسم صورة لما يسمى "المجتمع الامامي" والتناقضات بين مختلف التيارات والفصائل ودورهم في بروز الغلاة. 
ويعتبر كتاب " استقراء ونقد الفكر الشيعي" القرن الرابع قمة الإبداع وفي الوقت ذاته قمة الخبث مشيرا الى الجاحظ بصفته الرمز الكبير للتعقيد الحضاري العظيم في ذلك القرن .ويتأمل في كتاب الكافي الذي يعد أبو المراجع وكذلك في كتاب الكافي ويقارن ويحلل خصائص ما يعرف بالمدرسة الإخبارية والمدرسة الاصولية.  

ياخذ فالح مهدي بقارئه الى مساحات لم يجرأ باحثون على هتك محرماتها المصطنعة ويدخل في المنطقة الممنوعة " صناعة الجهل" التي وصمت ورثة الفكر الاجتهادي المؤسس على مبدأ الاحقية بخلافة الرسول محمد ؛ بالجهل والتخلف فيما كان اسلافهم يحملون لواء التنوير بكل العمق الفلسفي والمعرفي للقرن الرابع.

ويناقش باريحية تقترب كثيرا من السرديات الأدبية الخالية من المبالغات والصياغات المتحذلقة مفاهيم مثل الاستشهاد والمهدية وصناعة الامل والإحباط بشتى تجلياته، محافظا على نسق نظري ديناميكي يجعل القاريء، يتطلع الى الخاتمة بشوق معرفي قلما تتميز به أبحاث تتعامل مع قضايا جدلية، قد يدفع الداخلون الى مناطقها المحرمة حياتهم ثمنًا لجرأتهم وشجاعتهم العلمية.

ولنا في حسين مروة ومهدي العامل ومئات المتنورين العرب شواهد مأساوية لن تمحى مِن الذاكرة.

قرأ عسس الأمن العراقي غلاف كتاب الدكتور فالح مهدي فتحسسوا مسدساتهم، وقبل ان يفتحوا صفحات " استقراء ونقد الفكر الشيعي" اطلقوا نيرانهم وسحبوا الكتاب من معرض بغداد الدولي للكتاب. 
انها بصمة العصابات الحاكمة المرتجفة من كلمة " نقد" فهي لا تعرف الا " النقد" المنهوب من أموال العراق المبتلى بمشروعي الفرسنة والتجهيل.