رئيس مجلس الإدارة
د. رائد العزاوي

داليا الحديدي تكتب: ابتسامة مُذيلة بالعبوس

نشر
الأمصار

في سيارة "جيب" بجوار أخي، كنت أجلس في مشوار صباحي للمدرسة. ومن النافذة البلاستيكية، كنا نطالع الطريق؛ المارة والسائقين. وكثر ما أثار انتبهنا هذا الإجماع البشري لمشهد العبوس الصباحي اللا متناسق مع جلل تحضيرات الخالق لعبيده من جمال كوني متبرج احتفالًا بإشراقة الصباح. فكنت وأخي نتسابق على عمل جوه مضحكة لرسم البسمة على وجوه العابسين.
وينتهي اليوم الدراسي فنعود لل "جيب" من جديد، والمشهد العابس على أشده، فاستحوذت على فكرة أسباب التجهم، على الرغم مما في الإبتسام المجاني من أجر، وقد تجد أكابر العابسين مُدركين لما في البسمة من ثواب.. بل وقد يبادرونك بالحديث: "تَبَسُّمُك في وَجْه أَخِيك صدقة"، يروونه مُذيلاً بالعبوس.

تركت المدرسة ثم التحقت بالجامعة وفيها تخرجت، فعملت ثم تزوجت كما اغتربت، والحال على ما هو عليه منصوباً بالعبوس وعلامة نصبه الشدّة.. وتعساً للنحاة.
على الرُغم من التغريدات الحاضة على البِشر، مجرورة بالإغراء بحسناته، أرباحه الصحية والاجتماعية، إلا أن الغالبية قد استمسكت بصلابة عبستهم، تعض عليها بالنواجز، عضهم على ميراثهم وأنسابهم ومعتقداتهم.
فما هي موانع الابتسام التي تحول دون استفادة البشر من عوائده؟
ربما تُعَنْوِن البسمة مادة فرح، يخفيها متن الهموم، فيخشى المرء أن يُرى مبتسماً فيُحسد. لذا، نشهد سباقاً بشرياً كل يريد المجاهرة بأكبر عدد من خسائره والإعلان عن مغارمه: تلفياته، مسروقاته، هدره وما ضيّع خشية ترجمة الابتسامته بالسعادة، فتقذفه العين لبئر هاوية من الخسران.
..
وقد تقابل من معارفك من يغيب عنك ويغيب، ثم يتصل بك فقط ليحيطك علماً بمن احتال عليه أو بحادث وقع له أو بأي بَلِيّة أخرى.
كما يتشح البعض بأثواب الحُزن، مستعينين بالعبوس لإضفاء مظهر الاِنكسار المعين على تسول عطف المحيطين، فهيئة الجمال الحزين المصاب، يرتكز عليها المنكسر كمعاذير تعفيه من واجبات إجتماعية ومادية جمة، فهي هيئة جالبة للشفقة، معتصرة لجهود الناس وحالبة لخيراتهم، تماماً كما يعتصر الشفق آخر خلاصة لضي شمس الوداع ساعة الغروب بحركة عطف شمس الأصيل محاولاً اعتصار آخر رمق لضوء الشمس إشفاقاً على الأرض من الظلمة، فيأتي الشفق كالغيث بنسيج من ألوان حمراء هادئة تقاوم حلول الظلام الكالح بالعشاء فتعشى الأعين عن الرؤية.

وقد تعد التجارب المخيبة للآمال من موانع الإبتسام، فكلنا كنا يوماً ما هذا الغر الغَرير الناثر بشاشته على سائر البشر الصانع "للوجوه" لرسم البسمات.. ثم ما أن تقابل ابتسامتك بلغة جسد مهينة أو نبرة استعلاء صادة أو خد مصعر يشعرك أنك مُستَقذر، أو حين تُرَد تحيتك بتجاهل كأن من يحيك منزهاً عنك. هنالك تُطيح بالمرء ريح الظنون فيخشى أن يبادر ولو غريب أو قريب بمودة أو ابتسامة، لأنه قد أعاد حساباته فوجد أن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة.
وأستشهد بـ " فارس كرم"، حينما روى في برنامج "المتاهة" واقعة مقابلته لأحد زملائه صدفة، فأقبل عليه مبتسماً فاتحاً ذراعيه، فلقاه الزميل بكبر، وهكذا تعلم "فارس كرم" درساً لا ينساه في حتمية التباخل ببسمته والتجهم مع البعض صيانةً لكرامته، فما أكثر ما تكررت تلك المشاهد التي تحيل الفارس الكريم المُقبل إلى فرد غليظ متجهم يبخل بابتسامته، ولو كان اسمه يحمل عنوان الكرم.
..
لست بحاجة للتلاسن لإظهار احتقارك لأي آخر؛ فنبرة صوت خشنة أو مصافحة بطرف اليد، كفيلة بأن تشعر محدثك بأنه قد رخص نفسه ساعة إقباله عليك، ما يجعله يقرر تجنب البشاشة بشكل عام، لأنه لا يأمن صدود البشر من إقبالِهِم. ولأن درء مفسدة العبوس مقدم على جلب مصلحة الإبتسام الذي قد يشجع بعض السفلة على التمادي في تخطي الحدود بالتهريج المبالغ فيه تحت دعاوي المزاح، فيظهر الوجه الخشبي والمشية المصطنعة بالهوينى، وتكاد من "آلو" غليظة ترى التجهم رأي العين، لإرهاب خلق الله، من منطلق خير وسيلة للدفاع الهجوم!
كما أن الخوف من سوء تفسير البشاشة يساهم في إشاعة العبوس في مجتمعاتنا التي تترجم بسمة الغادة الجميلة على أنها ترادف "فتاة سهلة " فتُنصح بالعبوس.
والبسمات أنواع، فهناك خناجر في الابتسامات؛ فتوجد الابتسامة الصفراء الخبيثة وابتسامة التملق للمديرين، وابتسامة السخرية التي يتفاخر صاحبها:" ابتسمت له بنظرة.. حرقته.
وهناك ابتسامة الشماتة وهي تختلف عن ابتسامة الندل للمنفعة أو لتسول بقشيش، وابتسامة الإغواء، والابتسامة المقتضبة، وابتسامة أداء الواجب الجامدة للمضيفات، والإبتسامة الخادعة التي تخفي (إسفين) وتنتشر بأماكن العمل والابتسامة المجهدة أو ابتسامة العتاب التي تراها على وجوه الحماوات ويكون معناها "ماكانش العشم"، والابتسامة المسحوبة يتعمدها شخص، فيلاقي الجميع بالبشر، ويأتي على صيده، فيسحب ابتسامته كعقوبة علنية لتصفية حسابات ولإظهار الأفضلية بين البشر، هناك بسمة الرضا التي تعلو وجه المؤمنين. وتبقى ابتسامة الموناليزا أو ابتسامة المودة الدافئة الصادرة من القلب هي ما يثاب عليها الإنسان.
..
ولو حق لنا مطالبة الناس بملاقتنا بالبشر، فحري بنا التحري عن أوقات صفوهم، فالمسافات حرمات، فلا تتوقع أنك بمقابلة قريب، جار أو زميل لك صدفة، أن تجده دائم البشاشة، فقد تعود العائلة من فسحة، وأفرادها منهكين من آثار حر قائظ أو زحام خانق أو فاتورة ثقيلة، فإذا كان الحال كذلك لدى مقابلة من هو عائد من الفسح، فما بالُنا بمن يعود لبيته مثقلاً بهموم عمله أو ديونه، فهناك ضرورة لعدم اختراق الآخر إلا بعد التيقن من حالة استعداده لاستقبالك، وإلا قد يترجم التجهم الذي قوبلت به بأنه موجه ضدك، في حين ان الكثيرين يمتعضون إذا دق عليهم الباب ووجدوا صديقاً أو قريباً جاء بلا موعد لأنهم لا يحبذون أن يراهم الغير أو يرى منزلهم بهئية غير مهندمة أو مرتبة أو لوجود مشاكل عائلية داخل الدار أو لحلول ضيف آخر يتناقش في شئون سرية كديون أو قروض أو زيجة إلى آخره.
وتبقى الابتسامة درساً هاماً في الأخلاق، فقد شهد الله لرسوله بأنه "لعلى خلق عظيم" رُغم معاتبته له بسورة تحمل عنوان العتب "عبس" مع أن العبوس كان في وجه رجل أعمى لم يرى عبوس لكن مؤكد شعر بهوانه.