مكتبة “بيت الحكمة” في بغداد نموذج لتفوق الحضارة الإسلامية فكريًا

أسس الخليفة هارون الرشيد، منذ زمن، مكتبة بيت الحكمة في بغداد عاصمة الدولة العباسية آنذاك، في القرن الثامن الميلادي، وكانت لها مكانة خاصة في العالم الإسلامي، وازدهرت واستمرت في شهرتها في ظل حكم ابنه المأمون.
وجمع هارون الرشيد، معظم الكتب والمخطوطات الخاصة بالمكتبة من والده وجده، لتأسيس بيت الحكمة، وقام المأمون بتمديد المبنى الأصلي وتحويله إلى أكاديمية كبيرة، وعُرفت ببيت الحكمة.
وأصبحت واحدة من أعظم مراكز الحكمة والمعرفة في العصور الوسطى، وساهمت في الحركة العلمية آنذاك.
وتعد المكتبة خير دليل على المستوى الرفيع الذي بلغته النقاشات الفكرية والعلمية في العصر العباسي الذي اتسم بظاهرة “التواصل الحضاري”.
ومثل “بيت الحكمة” النموذج الأرقى للتسامح الفكري الذي بلغته الحضارة الإسلامية خلال العصر العباسي، وتكشف المكتبة المعروفة أيضا بـ”دار الحكمة” و”خزانة الحكمة” عن اهتمام خلفاء الدولة وتقديرهم البالغ للعلم والعلماء.
ورغم أهمية هذا النموذج فإنه لم يحظَ بعناية كبيرة في الدراسات التاريخية، إذ إن المتداول عن مكتبة “بيت الحكمة”، التي خصها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، بالذكر عبر تويتر، في المصادر والمراجع التاريخية يكاد ينحصر في جملة من المرويات التاريخية، حتى اختارت الباحثة السودانية رفيدة إسماعيل، قبل سنوات، المكتبة موضوعا لدراستها لنيل درجة الماجستير في التاريخ الإسلامي، بعنوان “أثر (بيت الحكمة) في الحركة العلمية في الدولة العباسية”.
بداية نشأتها
في البداية تم إنشاء بيت الحكمة من أجل استضافة المترجمين والحفاظ على أعمالهم، وتمت إضافة أنشطة بحثية أخرى في مجالات العلوم والطب وعلم الفلك، وضمت المكتبة العديد من المترجمين والعلماء والكتبة والمؤلفين والباحثين في كافة المجالات المختلفة، وتُرجمت بها الكثير من المخطوطات والكتب من كل الموضوعات الفلسفية والعلمية، بالعديد من اللغات مثل العربية والفارسية والآرامية والعبرية والسريانية واليونانية واللاتينية.
وأراد الخليفة المأمون في جعل بيت الحكمة، أكبر مركز للمعرفة في العالم، فقد كان عالمًا بارعًا في فروع المعرفة، بما في ذلك الطب والفلسفة والنجوم، وكان يقوم بتعيين أشهر العلماء للترجمة، مثل أبي يوسف يعقوب الكندي لجعله مسؤولًا عن ترجمة أعمال أرسطو، كما شجع المترجمين والباحثين على إضافة أعمال باللغة العربية إلى المكتبة، فكان يدفع لهم ما يكافئ وزن كل كتاب بالذهب.
الأقسام العلمية في بيت الحكمة
وتنوعت الأقسام العلمية في بيت الحكمة، فمنها قسم الترجمة والتعريب، وذكر ابن النديم في «الفهرست» أسماء للكثير ممن يقومون بالترجمة من اللغات الهندية، واليونانية، والفارسية، والسريانية، والنبطية، الذين قاموا بترجمة الكتب إلى العربية وسائر اللغات المنتشرة في المجتمع الإسلامي، فقد كوّن المأمون ثروة كبيرة من الكتب القديمة، فشكل لها هيئة من المترجمين المهرة والشراح والوراقين، للإشراف على ترميمها ونقلها إلى العربية، وعيَّن مسؤولاً لكل لغة يشرف على مَنْ يترجمون تراثها، وخصص لهم رواتب عظيمة.
وبذلك قدَّم العلماء المسلمون خدمة جليلة للبشرية، بنقلهم التراث المهدد بالزوال، للكثير من المصنفات اليونانية والهندية الثمينة القديمة، حيث كان يُحَرَّم الاطلاع عليها في كثير من البلدان التي جُلبت منها، ويُحرق منها ما يُعثر عليه، كما حدث بكتب العالم الشهير أرشميدس، إذ أَحرق الروم منها خمسة عشر حِملًا.
وكان مركز البحث والتأليف أهم روافد المكتبة، حيث يتم تأليف كتب خاصة لهذه المكتبة، وكان المؤلف يُثَاب بمكافأة سخية، وكان النسَّاخون يُنتقون حسب معايير خاصة.
المرصد الفلكي
ويعد المرصد الفلكي من أهم الأقسام العلمية ببيت الحكمة، إذ أنشأه المأمون في حي الشماسية بالقرب من بغداد ليكون تابعًا لبيت الحكمة لتعليم الفلك فيها تعليمًا عمليًا، ليُجرب فيها الطلاب ما يدرسونه من نظريات، وكان يعمل فيه علماء الفلك والجغرافيا والرياضيات، مثل الخوارزمي، وأولاد موسى بن شاكر، والبيروني ومن خلال هذا المرصد استطاع المأمون بفريقين من العلماء أن يحسب محيط الأرض، وذكر المؤرخون أن المغول دمروا مركز بيت الحكمة بالكامل في 1258 م، وحرقوا كل المخطوطات والكتب.