من الشرق الأوسط إلى أوكرانيا.. كيف تواجه خطة ترامب للسلام اختبار البقاء؟

يبدو أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يعيش واحدة من أكثر مراحل رئاسته حساسية، وهو يحاول التوفيق بين طموحاته الدبلوماسية الواسعة لإحلال السلام في مناطق الصراع، وبين تعقيدات واقع سياسي وعسكري لا يخضع للحسابات المثالية.
فمن الشرق الأوسط المشتعل، حيث يحاول تثبيت اتفاق هش لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، إلى أوروبا التي لا تزال تعاني من حرب مدمرة في أوكرانيا، يجد ترامب نفسه أمام اختبارات متزامنة قد تحدد مستقبل سياسته الخارجية.
رهان السلام بين غزة وتل أبيب

منذ أن أعلن ترامب عن نجاح وساطته في وقف القتال بين إسرائيل وحماس، روّج البيت الأبيض لذلك الحدث باعتباره "اختراقًا تاريخيًا" في مسار الصراع العربي الإسرائيلي.
لكن بعد أسابيع قليلة، بدأت الهدنة تظهر هشاشتها، مع تزايد الخروقات والاتهامات المتبادلة بين الجانبين، ما أثار تساؤلات حول مدى صمود هذا الاتفاق الذي وُصف في بدايته بأنه "نقطة تحول نحو السلام الشامل".
وتسعى الإدارة الأمريكية الحالية بقيادة ترامب ونائبه جي دي فانس إلى تحويل هذا التهدئة المؤقتة إلى اتفاق مستدام يفتح الباب أمام ترتيبات أوسع تشمل إعادة إعمار قطاع غزة وتشكيل قوة دولية لحفظ السلام.
غير أن العقبات التي تواجه هذا المسار كثيرة، في مقدمتها رفض إسرائيل القاطع لأي وجود مسلح لحماس، وإصرار الحركة على البقاء لاعبًا سياسيًا وعسكريًا لا يمكن تجاوزه.
وبينما تُحاول واشنطن الدفع بخطة من عشرين بندًا تقضي بتجريد غزة من السلاح، وتأسيس إدارة فلسطينية مدنية تكنوقراطية تحت إشراف دولي، تتوجس الأطراف المحلية من فقدان نفوذها في المرحلة المقبلة.
وفي ظل غياب الثقة، يبدو أن وقف إطلاق النار لا يزال مهددًا في أي لحظة، خاصة مع اتهام إسرائيل للحركة بقتل جنديين خلال اشتباكٍ محدود الأسبوع الماضي، ما دفع الجيش الإسرائيلي إلى تنفيذ غارات مكثفة أسفرت عن سقوط عشرات القتلى.
مهمة فانس في الشرق الأوسط
ضمن محاولات إدارة ترامب لإنقاذ ما تبقّى من الهدنة، وصل نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس إلى الشرق الأوسط في زيارة مفاجئة، حمل خلالها رسائل مباشرة إلى كل من تل أبيب والقاهرة والدوحة.
ووفقًا لمصادر دبلوماسية، فإن فانس شدد على ضرورة التزام الأطراف بشروط الاتفاق، محذرًا من أن انهيار الهدنة سيقوّض مجمل "خطة ترامب للسلام".
وفي إسرائيل، سمع فانس من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تأكيدات على "الالتزام المشروط" بوقف إطلاق النار طالما لم تستأنف حماس إطلاق الصواريخ.
أما في القاهرة، فركزت المباحثات على الدور المصري في ضبط المعابر الحدودية وتهيئة الأرضية لتطبيق الشق الإنساني من الاتفاق، بما في ذلك دخول المساعدات إلى غزة وإعادة تشغيل معبر رفح وفق آلية منسقة دوليًا.
تؤكد أوساط مقربة من الإدارة الأمريكية أن فانس يحاول الحفاظ على الزخم السياسي الذي ولّده الإعلان عن اتفاق الهدنة، حتى لا يتكرر سيناريو أوكرانيا، حيث فشلت مبادرات ترامب السابقة في تحويل التهدئة إلى سلام دائم.
لكنّ مراقبين يشيرون إلى أن الفجوة بين الأطراف في غزة أعمق من أن تُردم بسرعة، خاصة أن حماس، رغم التزاماتها الشكلية، تستغل فترة الهدوء لإعادة تنظيم صفوفها داخليًا.
القمة المؤجلة مع بوتين
في المقابل، وجد ترامب نفسه في موقف حرج على الجبهة الأوروبية بعد أن أعلن بشكل مفاجئ تأجيل القمة التي كانت مقررة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في بودابست.
وبرر الرئيس الأمريكي قراره بأنه "لا يريد إضاعة الوقت"، في إشارة إلى عدم جدية موسكو في إبداء مرونة حقيقية تجاه شروط إنهاء الحرب في أوكرانيا.
وكان ترامب يأمل أن تؤدي القمة الثانية مع بوتين إلى فتح مسار جديد للمفاوضات بين موسكو وكييف بعد أن توقفت الجهود السابقة منذ لقائهما في أغسطس الماضي.
لكنّ مراقبين يرون أن تراجع ترامب عن عقد اللقاء يعكس إدراكه لتشدد الموقف الروسي، ورفضه القبول بأقل من اعتراف أوكرانيا بضم مناطق لوغانسك ودونيتسك، وهو ما تعتبره كييف "خطًا أحمر".
المكالمة الأخيرة بين وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو ونظيره الروسي سيرغي لافروف أظهرت أن الطرفين لا يزالان متباعدين إلى حد يصعب تجاوزه، إذ لم تقدّم روسيا أي تنازلات يمكن أن تُرضي الجانب الأوكراني أو تُقنع الإدارة الأمريكية بإحياء قنوات الحوار.
ومع ذلك، يرى البعض أن قرار ترامب تأجيل القمة لا يعني التخلي عن الملف الأوكراني، بل إعادة ترتيب أولوياته في ضوء الملفات الأكثر إلحاحًا، وعلى رأسها الشرق الأوسط.
الضغوط السياسية والاختبارات الدولية
يشير محللون إلى أن ترامب يحاول في الوقت الراهن إعادة رسم صورة الولايات المتحدة كقوة دبلوماسية قادرة على فرض التوازن، بعد سنوات من تراجع الدور الأمريكي في ظل صراعات متشابكة.
لكنّ هذا الطموح يواجه تحديات داخلية وخارجية، أبرزها الانتقادات التي تطال سياسته "الصفقاتية"، والتي تضع المصالح السياسية فوق الاعتبارات الإنسانية، خصوصًا في الملف الفلسطيني.
وفي الوقت نفسه، يرى بعض خصوم ترامب أن مبالغته في وصف كل هدنة بأنها "اختراق تاريخي" تضعه تحت ضغط دائم لتقديم نتائج ملموسة، وهو ما لم يتحقق حتى الآن لا في غزة ولا في أوكرانيا.
كما أن مراكز القرار في واشنطن منقسمة حول مدى جدوى الانخراط العميق في الصراعين في وقت واحد، خشية أن يؤدي التشتت إلى فقدان السيطرة على كليهما.
ومن جهته، يعتبر المفاوض الأمريكي السابق دينيس روس أن المرحلة الحالية تتطلب "مقاربة أكثر واقعية"، تقوم على بناء إدارة فلسطينية مؤقتة مدعومة بمجلس سلام دولي، تمهيدًا لقيام قوة استقرار قادرة على ضبط الأوضاع في غزة.
ويضيف روس في تصريحات لشبكة "سي إن إن": "يجب تنفيذ هذه الخطوات عاجلًا وليس آجلًا، فكل يوم تأخير يقلل فرص النجاح ويزيد من احتمالات انهيار الاتفاق".
قوة حفظ سلام مؤجلة
على الرغم من تأكيد البيت الأبيض عزمه على تشكيل قوة دولية لحفظ السلام في قطاع غزة، إلا أن هذه الفكرة لا تزال في طور النقاش ولم تنتقل بعد إلى التنفيذ.
فحتى اللحظة، لم تُبدِ أي دولة استعدادها لإرسال قواتها إلى منطقة تعتبر من أكثر بقاع العالم خطورة وتعقيدًا.
ويبدو أن ترامب يحاول حشد دعم إقليمي لهذه الخطة، عبر التواصل مع عدد من الدول العربية المؤثرة، إلا أن معظمها يتحفظ على المشاركة العسكرية المباشرة في بيئة قد تُعرّضها لصدامات سياسية وأمنية.
وفي غياب هذه القوة، يبقى وقف إطلاق النار معلقًا على حسن نية الأطراف، وهو أمر هش بطبيعته في ظل التوتر المستمر داخل القطاع.
ما بين الطموح والواقع
في المحصلة، يواجه ترامب اليوم معادلة صعبة بين طموحاته الشخصية في دخول التاريخ كصانع سلام، وبين واقع إقليمي ودولي يعجّ بالتناقضات.
ففي الوقت الذي يسعى فيه لترميم الاستقرار في غزة، يجد نفسه عاجزًا عن إحراز تقدم في أوكرانيا، بينما تتربص به المعارضة الداخلية التي ترى في تحركاته الخارجية محاولة لصرف الأنظار عن أزماته السياسية في الداخل الأمريكي.
وبينما يحاول البيت الأبيض الترويج لصورة "ترامب رجل السلام"، يرى محللون أن التجارب السابقة — من أفغانستان إلى أوكرانيا — تُثبت أن تحقيق السلام لا يعتمد على الصفقات وحدها، بل على بناء ثقة طويلة المدى ومؤسسات قادرة على ضمان الاستقرار.
ومن دون ذلك، ستظل جهود واشنطن تراوح مكانها، ويتحوّل كل "اختراق" إلى هدنة مؤقتة سرعان ما تنهار أمام أول اختبار ميداني.
بين موسكو وغزة، تتوزع رهانات ترامب على تحقيق اختراق دبلوماسي يعيد له بريق "الرئيس المفاوض" القادر على حل أزمات العالم.
لكن الواقع يُثبت أن طريق السلام لا يُعبَّد بالتصريحات ولا بالمبادرات السريعة، بل بتفاهمات حقيقية تتجاوز الشعارات السياسية إلى معالجة جذور الأزمات.
وفي ظل الانقسامات الدولية والشكوك المتبادلة، تبقى طموحات ترامب معلقة بين حلم زعامة عالمية، وواقع لا يرحم من يراهن على الوعود وحدها.