مجلس التحرير: مجموعة صحفيين عرب
الموقع قدم أوراق اعتماده
الى نقابة الصحفيين العراقيين

في ذكرى وفاته.. الرئيس المصري "عبد الناصر" الثورة وصعود السلطة

نشر
الأمصار

في مثل هذا اليوم، تتجدد الذكرى الحزينة لرحيل جمال عبد الناصر (15 يناير 1918 – 28 سبتمبر 1970)، أحد أكثر الشخصيات تأثيرًا في تاريخ مصر والعالم العربي المعاصر. 

في ذكرى وفاته.. قصة صورة القطار الأشهر للرئيس جمال عبد الناصر - بوابة  الشروق - نسخة الموبايل

وبينما يتباين تقييم النُّقاد والمفكرين له مؤيدوه يرونه زعيمًا قوميًا ملهمًا، ومعارضوه يسلطون الضوء على التجاوزات — لا يمكن لأحد أن ينكر أن إرثه ما زال حاضرًا في الذاكرة الوطنية، يتناوله الجيل بعد الجيل، متأملًا بين إنجازاته وأخطائه، بين طموحه وجذبه، بين عبقرية القيادة وحدود السلطة.

النشأة والتكوين

وُلد جمال عبد الناصر في حي باكوس بالإسكندرية في يناير 1918، لعائلة من خلفية متواضعة. كان والده موظفًا في هيئة البريد، وترحّل بأسرته بين عدة مدن بحسب العمل. في صغره، فقد والدته، ما شكل صدمة مؤثرة في حياته. ومن تلك البدايات البسيطة نشأ شابًا جادًّا، يميل إلى القراءة والجد والاجتهاد.

كانت سنوات الدراسة ومرحلة الشباب أيامًا حافلة بالمسارات الفكرية والسياسية: شارك في الحركات الطلابية المناهضة للاستعمار، ثم التحق بالكلية الحربية. 

وقد وُضعت أمامه عقبات عدة، لكنه تجاوزها بعزيمة، حتى التحق بالفعل بالكلية الحربية وتخرج في يوليو 1938، متسللاً من بين تحديات الزمن وظروفه الخاصة. 

خلال خدمته العسكرية المبكرة، شارك في حرب 1948 عام فلسطين، وهو الحدث الذي ترك في وجدان الأجيال أثرًا عميقًا، وأكد لديه أهمية النضال العربي. بعد ذلك شغل مواقع عسكرية تعليمية، ومن ثم تبلورت في ذهنه فكرة أن التأثير الحقيقي لا يكون في رتبة عسكرية فحسب، بل في توجيه البوصلة الوطنية نحو “الكرامة والاستقلال”. 

خمسون عاما منذ الرحيل.. جمال عبد الناصر قائد التحرر الوطنى العربى والإفريقى  | مبتدا

الثورة وصعود السلطة

في يوليو عام 1952، تحققت نقطة التحول الكبرى: ثورة الضباط الأحرار، التي أسقطت النظام الملكي وأعلنت الجمهورية لاحقًا. كان عبد الناصر أحد أبرز أعضائها، رغم أن القيادات المؤسساتية الأولى وضعت محمد نجيب في موقع أولي ظاهري، لكن البطاقة الحقيقية كانت بحضور ناصر الكاريزمي في المشهد. 

مع الأيام، تكاتفت عوامل متعددة — النفوذ الشعبي، والديناميكية الثورية، وقدر من الذكاء السياسي — لتفتح له الطريق نحو السلطة الفعلية. في 24 يونيو 1956، صار رئيس الجمهورية، بعدما تماهت شخصية ناصر مع آمال الشعب، وتماهي كثيرون في داخله مع الحلم القومي الكبير. 

وخلال تلك المرحلة، أقدم على خطوات جريئة كان يُنظر إليها آنذاك كمفاصل تاريخية:

تأميم قناة السويس في 26 يوليو 1956، استعادة لكرامة الوطن بعد أن سيطرت القوى الاستعمارية على شريان دولي هام. 

بناء السد العالي في أسوان، مشروع ضخم هدف إلى تأمين الكهرباء، والرّد على الضغوط الدولية، وتحويل نهر النيل إلى مصدر تنمية لا خضوع. 

تنفيذ الإصلاح الزراعي الشهير، الذي هدَف إلى تقليص الفوارق، ومنح أصحاب الحيازات الصغرى الفرصة في أرض وطنهم.

دفع مصر إلى دور فاعل على الساحة الإقليمية والدولية، فتصدر حركة عدم الانحياز، وبرز صوت القاهرة في مؤتمرات آسيا – أفريقيا، ومؤتمر باندونغ وغيرها. 

مظاهرات 9 يونيو: لماذا رفضت الجماهير تنحي القائد المهزوم؟ – إضاءات

التحديات والخيبات

لم تكن السنوات النصرية خالية من الصراعات، ومن المآزق التي أثقلت كاهل الزعامة المُطلقة:

القمع السياسي: فبينما كانت السلطة تتمركز في يد ناصر، اختفت كثير من الأصوات المعارضة، وتقلّصت أطر الحريات السياسية، وفرض القالب الواحد في الحياة السياسية والثقافية، يُنتقد نظامه على أنه لم يترك مجالًا لتعددية حقيقية.

هزيمة 1967 (نكسة يونيو): ربما أخطر محطات حكمه، حيث خسرت مصر الأراضي، وهتزّت ثقة الجماهير، وظهرت هشاشة الاستراتيجية الحربية والسياسية في مواجهة إسرائيل، مما فتح الباب أمام تساؤلات عميقة حول القيادات البيروقراطية، والتوازن بين الطموح والقدرة. 

الاقتصاد والتخطيط: رغم بعض النجاحات، فإن المشروعات الكبرى والمطامح الكبيرة واجهت أحيانًا ضعف التنفيذ، وقيود التمويل، وتداخل السلطات، والاعتماد على القروض الخارجية. كثير من المبادرات الاجتماعية والثقافية ظلت حبلى بالأفكار أكثر مما تجسدت على أرض الواقع. 

الموازنة بين الطموح والتوازن السياسي: مزيج الكاريزما والسلطة المطلقة مع فكرة الزعامة القومية، يرتب لا محالة ضغوطًا داخلية وخارجية، ويجعل السؤال عن الرقابة على السلطة أو الإصلاح الذاتي من أعقد الأسئلة التي واجهت النظام الناصري، والتي لا تزال نقاط جدل حتى اليوم. 

جمال عبد الناصر بعيون فلسطينية – إضاءات

شخصية الزعيم: الكاريزما والعلاقة مع الشعب

ما يميز عبد الناصر في نظر الجماهير هو تلك العلاقة الحميمية بينه وبين الشعب، كمن يقول “أنا معكم” أكثر مما يقول “أنا فوقكم”. في خطاباته جاء كثير من مقاطع النداء الوطني، والانتماء، والكرامة: “ارفع رأسك يا أخي” وغيرها من العبارات التي دخلت الذاكرة الجماعية.

كذلك كان يعيش تقشفًا نسبيًا مقارنة بالبعض من زعماء عصره، ولم يُرَوَّج أنه استفاد من المال العام، ولم تمتد يده إلى ما يُخلّ بالمال الوطني، بحسب الروايات السائدة. 

لكن الكاريزما أيضًا تحمل الظلال: الزعامة المطلقة، وقوة التأثير، تجعل من الصعب التمييز بين المصلحة الوطنية والرغبة في التسييد. كثير من قراراته اتُّخذت في نطاق الضغوط أو الإلحاح الجماهيري أو الرغبة في العبقرية السياسية، أكثر من الحسابات التأسيسية الدقيقة. وهذا من دوافع الجدل الجاري حتى اليوم. 

الإرث والمُعاصِر: كيف يُقرأ ناصر اليوم؟

بعد ما يزيد على نصف قرن على وفاته، يبدو أن عباءة الزعامة الناصرية لا تزال كبيرة على الأجيال الحديثة:

يُنظر إليه من قِبَل البعض كرمز للكرامة الوطنية، والقومية العربية، ورافعًا لشعارات الاستقلال والتحرر، بأنه نموذج لمقاومة النفوذ الخارجي. 

وفي المقابل، لا تغيب الانتقادات التي تُحمّله مسؤولية الأخطاء المركزية، مثل قمع الحريات، تهيئة الحكم الفردي، وطبيعة إنتاج القرار المركزي، والتكلفة البشرية والسياسية لبعض المشاريع الكبرى. 

يُطرح كذلك اليوم كثير من الأسئلة الحديثة: هل كان يمكن أن يكون مسار ناصر مختلفًا لو اتسم بالتوازن المؤسسي؟ هل مكّنت الشخصية الكاريزماتية من تجاوز الخطأ أحيانًا؟ هل ما زال مشروع الدولة القوية بديلاً ممكنًا في خضم التحولات الاقتصادية والعولمية؟ هذه الأسئلة لا تغيب عن المشهد الفكري العربي، خصوصًا في أوقات الأزمات والانكسارات.

ننشر 15 صورة نادرة للزعيم الراحل جمال عبد الناصر بالزى العسكرى - اليوم  السابع

في الذكرى: تأملات ختامية

تستدعي ذكراه اليوم وقفة تتجاوز الطابع الرمزي، لتكون محطة تأمل في معنى القيادة الوطنية، وفي محدودية الزمن البشري، وفي مدى قدرة الإنسان أن يُشكّل واقعه بمقدار من الحلم والعمل. 

جمال عبد الناصر ليس أسطورة بلا شروخ، ولا رجل خطيئة بلا مجد؛ إنه حالة تختزل الصراع بين الطموح والحدود، بين القوة والمؤسسات، بين الشعور الجماهيري وضغوط الزمان والمكان.

في هذه الذكرى، لا نحتاج إلى تمجيد مطلق، ولا لطعن هدام؛ ما نحتاجه هو قراءة واعية، وشهادة للمسار الذي عاشه شعب بأكمله، من جيل إلى جيل، في أحلامه وسقطاته ونهوضه المدوّر. فليتذكره كل من يؤمن بأن مصر تستحق أن تُروى قصتها بكل عمقها، لا أن تُحكى جزئياً أو تتنافس الروايات المتناقضة في كل ذكرى.