مجلس التحرير: مجموعة صحفيين عرب
الموقع قدم أوراق اعتماده
الى نقابة الصحفيين العراقيين

حازم صاغية يكتب: «بالعودة إلى الرأي العامّ الإسرائيلي...»

نشر
حازم صاغية
حازم صاغية

من الأفكار القليلة النافعة التي اعتمدها ياسر عرفات يقينُه بأنّ كسب جزء فاعل من الرأي العامّ الإسرائيليّ أمر لا بدّ منه. هذا ما يستحقّ التذكير به مرّة ومرّتين وعشرين مرّة، رغم أنّ الوضع الراهن لا يُسعف كلاماً كهذا. لكنْ حيال توازن القوى العسكريّ مع الدولة العبريّة، وبالنظر إلى تكوين مجتمعها ونوع علاقاته بالقوى الغربيّة المؤثّرة، لا سيّما الولايات المتّحدة، يغدو كسب رأيها العامّ، أو شطراً وازناً منه، شرطاً شارطاً لأيّ إنجاز يمكن أن يحرزه الفلسطينيّون. وما يدفع في الاتّجاه نفسه أنّ «التحرير من الخارج» إنّما تكشّف عن استحالة دمويّة ظهرت في الأردن عام 1970، قبل أن تظهر في لبنان عام 1975، وبات بالتالي أمراً مَطويّاً.

والحقّ أنّه بسبب التصوّر العرفاتيّ هذا حُوربت «منظّمة التحرير الفلسطينيّة»، واغتيل بعض أبرز ممثّليها كسعيد حمامي وعزّ الدين قلق وعصام السرطاوي، لأنّ مناهضي السلام، في دمشق وبغداد البعثيّتين كما في طهران الخمينيّة وطرابلس القذّافيّة، كان لديهم تصوّر آخر مفاده حرب الوجود لا الحدود، وحرب الكلّ على الكلّ، أمس واليوم وفي كلّ يوم. وكما نعلم جيّداً، نجح هؤلاء الأخيرون، بمعونة إخوتهم الأعداء في إسرائيل، في استنزاف سلام أوسلو الذي أنتجه تصوّر عرفات.

الآن، بعد عمليّة 7 أكتوبر والحرب التي استجرّتها، تغيّرت الأمور إلى الأسوأ بقدْر كبير جدّاً. أمّا أحد المتغيّرات الأبرز فأنّ الرأي العام الإسرائيليّ ألغى كلّ سياسة في ما يتّصل بالفلسطينيّين من غير تمييز، فيما تبخّرت تماماً حساسيّته الإنسانيّة والأخلاقيّة حيال الألم الفظيع الذي ينزل بهم. هكذا كان من «فضائل» العمليّة المذكورة أنّ حرب الكلّ على الكلّ غدت أمراً واقعاً فيما وجهتُه العمليّة يترجمها قضم القويّ، بلا رحمة، للضعيف.

لكنْ يبقى السؤال الحارق مطروحاً بإلحاح لا يملك الفلسطينيّون ترف تأجيله أو تجاهله: كيف العمل على استعادة صورة الرأي العامّ الإسرائيليّ كما كانت عليه في أوائل التسعينات، لا سيّما وأنّ اختلال توازن القوى زاد فلكيّاً مذّاك؟

والحال أنّ المراقب يلمس اليوم نوعاً من عودة الاعتبار إلى مخاطبة ذاك الرأي العامّ، والطموح إلى التأثير فيه، رغم أنّ الميل هذا لا يزال خجولاً ومتردّداً، يضاعف خجلَه وتردّدَه مضيّ الجيش الإسرائيليّ في إبادة غزّة وسياساتٌ عدوانيّة من صنف تهجير سكّان القطاع، أو المشروع الأخير لتقسيم الضفّة الغربيّة، ناهيك عن مداعبة نتانياهو شعار «إسرائيل الكبرى»...

ولسوف يكون شديد الأهميّة البناء على الهزائم المعنويّة التي أصابت وتصيب الدولة العبريّة في موازاة إحرازها ما أحرزته من انتصارات حربيّة كاسحة. فيوماً بيوم سوف يتعاظم عدد الإسرائيليّين الذين يشعرون بأنّ نهج بنيامين نتانياهو وحلفائه في الأحزاب الدينيّة يحوّلهم إلى بلد كريه، وإلى مجتمع مريض يقلّ أمنه وتتزايد عزلته كلّما تعاظم بطشه وتضاعفت انتصارات جيشه. وبالمعنى هذا، يبدو من المُلحّ العمل على سدّ الفجوة بين استجابات الرأي العامّ العالميّ وامتناع الرأي العامّ الإسرائيليّ عن تلقّف تلك الاستجابات، وعن الربط بينها وبين تردّي أوضاعه المعنويّة وصورته الأخلاقيّة.

أمّا الاستثمار في وجهة كهذه ودفعها إلى الأمام فيستلزمان، بطبيعة الحال، وقتاً وصبراً، كما يتطلّبان مبادرات، على ضفّتي النزاع، تتجرّأ على المألوف والسائد. ومن هنا تطلّ الحاجة إلى برنامج يوفّر طمأنة متبادلة لطرفي النزاع: فالاحتجاج على نتانياهو وحكومته، انطلاقاً من الحرص على الرهائن لدى «حماس»، لا يزال يدور في كوكب هزيل الصلة بمهمّة وقف الموت في غزّة لأنّه بذاته هدف نبيل، فضلاً عن الالتفات إلى حقّ الشعب الفلسطينيّ في دولة هي حقّه الشرعيّ، مثله مثل باقي شعوب الأرض. وفي المقابل، فمثلما طوي من قبل شعار «تحرير فلسطين» لصالح «محو آثار العدوان»، بات التخلّص من باقي الترسانة الإيديولوجيّة والشعاراتيّة (إزالة إسرائيل، من النهر إلى البحر، فلسطين أرض وقف إسلاميّ...) والنقد الصريح الواسع والجذريّ لعمليّة 7 أكتوبر، شرطاً أساسيّاً للانتقال إلى السياسة ومخاطبة الرأي العامّ الإسرائيليّ.

وقبل أسبوعين دعا ابراهام بورغ، الذي سبق له أن رأس «الوكالة اليهوديّة» و«المنظّمة الصهيونيّة العالميّة» والكنيست الإسرائيليّ، يهودَ العالم كي «ينتفضوا الآن» وكي يمارسوا «المقاومة الأخلاقيّة»، متّهماً دولته بارتكاب جرائم ضدّ الإنسانيّة في غزّة. وهو طالب مليوناً منهم، أي أقلّ من عُشر يهود العالم، بأن يقاضوا الدولة العبريّة في محكمة العدل الدوليّة بلاهاي: فـ«نحن لن نسمح لدولة إسرائيل، التي تُنزل العنف على نحو منهجيّ، بسكّان مدنيّين، أن تتحدّث باسمنا، ولن نسمح بتحويل اليهوديّة غطاءً للجرائم».

صحيح أنّ التعويل على فعاليّة مباشرة لمواقف كهذه مبالغةٌ فادحة، كمثل افتراض أنّ السنونوّة الواحدة تصنع ربيعاً. لكنّ المؤكّد أنّ في الوسع تكثير حالات كحالة ابراهام بورغ، خصوصاً إذا ما ظهر معادل فلسطينيّ يملك الوزن المعنويّ الذي يملكه بورغ، ويعبّر عن معارضته الأفعال الميليشيويّة بالبلاغة والحسم اللذين تحدّث بهما.

نقلًا عن صحيفة الشرق الأوسط