مداهمة إف بي آي لمنزل جون بولتون تفتح ملف الوثائق السرية مجددًا

في تطور جديد يثير ضجة كبرى داخل الأوساط السياسية والإعلامية في الولايات المتحدة، داهم مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) صباح الجمعة منزل جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق، في ضاحية بيثيسدا بولاية ماريلاند. وتأتي هذه المداهمة في إطار تحقيق فيدرالي واسع النطاق يتعلق بحيازة أو إخراج وثائق سرية بطرق يُشتبه في أنها غير قانونية.
تفاصيل المداهمة وأبعادها

بحسب ما نقلته صحيفة نيويورك بوست، فإن عملية المداهمة لم تكن مفاجئة تمامًا، إذ سبقتها تحركات قانونية وتحقيقات غير معلنة تم تفعيلها خلال الأشهر الماضية.
وأكدت مصادر مطلعة أن القضية ترتبط بشكل مباشر بملف قديم يعود إلى فترة إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، وتحديدًا منذ نشر بولتون كتابه المثير للجدل "الغرفة التي شهدت الأحداث" عام 2020.
هذا الكتاب الذي كشف فيه بولتون عن مداولات داخلية حساسة في البيت الأبيض، أثار حينها غضب إدارة ترامب التي حاولت بكل الطرق منع نشره بحجة أنه يتضمن أسرارًا وبيانات مصنفة "سرية للغاية".
ورغم محاولات الإدارة الأمريكية استصدار حكم قضائي لمنع صدور الكتاب، رفض القضاء الفيدرالي ذلك، لتتحول القضية لاحقًا إلى محور تحقيقات طويلة تقودها وزارة العدل.
خلفية الأزمة بين بولتون وترامب
لم يكن بولتون مجرد موظف عادي في إدارة ترامب، بل كان أحد أبرز الشخصيات التي تولت موقعًا حساسًا بين عامي 2018 و2019 كمستشار للأمن القومي.
وبالرغم من خلفيته الجمهورية المحافظة ومشاركته في مناصب رفيعة بإدارات سابقة تعود لعهد الرئيسين رونالد ريغان وجورج بوش الأب ثم الابن، إلا أن علاقته مع ترامب انتهت بصدام علني.
أصبح بولتون واحدًا من أكثر الأصوات المنتقدة لسياسات ترامب في ملفات الأمن القومي والسياسة الخارجية، سواء تجاه إيران أو كوريا الشمالية أو حتى العلاقات مع الحلفاء في الناتو.
هذا الصدام السياسي أوجد قناعة لدى الكثير من المراقبين بأن المواجهة الحالية بين بولتون ووزارة العدل قد تكون لها جذور سياسية بقدر ما هي قانونية.
إعادة فتح التحقيق القديم
أشارت مصادر مطلعة إلى أن التحقيق الجاري أعيد تفعيله مؤخرًا بعد أن كان قد جُمّد مؤقتًا خلال الإدارة السابقة.
وصرّح مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي الحالي كاش باتيل بأن "جميع المسؤولين، الحاليين والسابقين، خاضعون للقانون"، في رسالة واضحة بأن المكتب لن يتهاون مع أي خرق يمس الأمن القومي الأمريكي.
هذه الرسالة أثارت جدلاً واسعًا على الساحة السياسية، إذ رأى البعض فيها محاولة لإعادة بناء صورة الـFBI أمام الرأي العام كجهة محايدة وحازمة، خصوصًا بعد الانتقادات التي وُجهت للمكتب في السنوات الماضية بشأن انحيازاته السياسية.
الوثائق السرية وأهمية التحقيق
القضية الحالية لا تتعلق فقط بكتاب نشر قبل خمس سنوات، بل بتسريبات يُعتقد أنها تضم معلومات تتعلق بمداولات رئاسية حساسة، وخطط عسكرية ودبلوماسية لا تزال بعض جوانبها قيد السرية. أي تسريب من هذا النوع قد يُصنّف كتهديد مباشر للأمن القومي، ما يجعل القضية شديدة الحساسية سواء من الناحية السياسية أو القانونية.
وتثير هذه المداهمة أيضًا تساؤلات حول ما إذا كانت هناك وثائق إضافية ما زالت بحوزة بولتون أو جرى التعامل معها بطريقة غير قانونية.
وفي حال ثبت ذلك، فإن العقوبات المحتملة قد تكون صارمة، خصوصًا وأن القانون الأمريكي يشدد على سرية الوثائق المتعلقة بالأمن القومي.
التوقيت والانعكاسات السياسية
اللافت أن مداهمة منزل بولتون جاءت بعد أيام فقط من تصريحات مثيرة للجدل لمدير الـFBI بشأن وجود تجاوزات ارتكبها بعض المسؤولين السابقين في المكتب.
وهو ما دفع مراقبين للقول إن العملية ضد بولتون قد تكون جزءًا من حملة أوسع لإظهار المكتب بمظهر الحزم وعدم التساهل مع أي شخصية مهما كان موقعها.
كما يرى البعض أن إعادة فتح التحقيق في هذه المرحلة قد تكون مرتبطة بالسباق الانتخابي القادم، خاصة أن بولتون ما زال حاضرًا في المشهد السياسي كمعلق بارز وناقد لاذع لترامب. وبالتالي فإن أي قضية تلاحقه ستؤثر بشكل غير مباشر على المشهد الانتخابي وصورة ترامب نفسه.
بولتون بين الماضي والحاضر
بعيدًا عن الجدل السياسي والقانوني، يبقى جون بولتون شخصية استثنائية في المشهد الأمريكي. فقد لعب أدوارًا رئيسية في صياغة سياسات الولايات المتحدة تجاه الأمم المتحدة وإيران والعراق وأفغانستان.
كما كان من أبرز الداعمين للنهج المتشدد تجاه خصوم أمريكا، وهو ما أكسبه لقب "الصقر" داخل الإدارة الأمريكية.
لكن تحوله من حليف إلى خصم لترامب جعله عرضة لحملات هجومية من أنصار الأخير، الذين يعتبرونه "خائنًا" للإدارة التي خدمها.
فيما يرى آخرون أنه مجرد مسؤول سابق فضّل أن يقول "الحقيقة" حتى لو كلفه ذلك مواجهة قانونية صعبة.
ردود الأفعال الدولية
القضية لم تقتصر على الداخل الأمريكي فقط، إذ أثارت اهتمامًا واسعًا في العواصم الأجنبية، خصوصًا وأن بولتون كان لاعبًا محوريًا في ملفات الشرق الأوسط وإيران وكوريا الشمالية.
ويرى خبراء أن أي إدانة رسمية له قد تضع تساؤلات حول مستوى الحماية الممنوحة للمداولات الدبلوماسية الأمريكية، ما يضع الإدارة الحالية أمام تحديات إضافية.
ما الذي ينتظر بولتون؟
حتى الآن لم توجه إلى بولتون تهم رسمية، لكن المداهمة بحد ذاتها تمثل خطوة تصعيدية توحي بأن التحقيق دخل مرحلة جديدة أكثر جدية.
وفي حال عُثر على وثائق أو أدلة تثبت وجود خروقات، فإن بولتون قد يواجه محاكمة طويلة ومعقدة، وربما عقوبات جنائية مشددة.
وفي المقابل، فإن بولتون وأنصاره قد يحاولون تصوير القضية على أنها "استهداف سياسي"، خصوصًا في ظل الانقسامات العميقة التي يعيشها المشهد الأمريكي بين الجمهوريين والديمقراطيين.
في المحصلة، يمكن القول إن قضية جون بولتون ليست مجرد ملف قانوني يتعلق بوثائق سرية، بل هي فصل جديد من فصول الصراع المستمر داخل الولايات المتحدة بين السياسة والأمن والقانون.
ومهما كانت نتائج التحقيق، فإن المداهمة الأخيرة لمكتبه ستبقى حدثًا محوريًا في المشهد الأمريكي، وقد تؤثر على مسار الانتخابات القادمة وصورة مؤسسات إنفاذ القانون أمام الشعب الأمريكي.