مجلس التحرير: مجموعة صحفيين عرب
الموقع قدم أوراق اعتماده
الى نقابة الصحفيين العراقيين

جمال الكشكي يكتب: «جريمة قرن... وميلاد جديد»

نشر
جمال الكشكي
جمال الكشكي

ضرب لي موعداً أكثر من مرة، ومع تلاحق الأحداث لم نتمكن من اللقاء، لكن مهنة الدبلوماسي تتغلب دائماً على المصاعب والعقبات، أخيراً التقينا، كان يريد أن نتحاور حول أوضاع الشرق الأوسط الذي لا يهدأ عن الفوران.

الحديث عن المنطقة ذو شجون. التقينا في مقهى وكانت شاشة التلفزيون تذيع عواجلها عن غارة إسرائيلية هنا، وقصف إسرائيلي هناك، وخبر من واشنطن، ولقاء بين هذا الزعيم أو ذاك، والشرق الأوسط هو القاسم المشترك في الأخبار والأنباء.

أشار إلى الشاشة المعلقة، وقال: متى يتوقف هذا؟

الدبلوماسي يجيد فن الإصغاء، والكاتب يريد أن يجمع الخيوط لينسج ثوباً لائقاً للحقيقة، قلت بيني وبين نفسي إن صديقي يريد أن يسمع نبض الشارع والنخبة معاً، فقد تعب الدبلوماسي الذي فيه، ويريد أن يصل إلى نهاية لكل هذا العبث في الشرق الأوسط.

قلت له: كم مرة تحاورنا وتسامرنا واستخدمنا المفردات نفسها وخرجنا بالانطباع ذاته؟

ابتسم ابتسامة خفيفة، وقال: هل تعرف أن حواراتنا هذه كأنها حوار واحد، نأتي بالمفردات نفسها عن الأماكن نفسها، وكثيراً ما تمنيا أن نتحاور حول كتاب أو نظرية أو فيلم شاهدناه، لكن حيرة الشرق الأوسط تأخذنا إلى بحر لا قرار له.

قلت له: ومع هذا ألمح وسط الضباب ضوءاً يمكن أن نهتدي به. ثم نظرت إليه مباشرة، وكان راغباً في معرفة ماهية هذا الضوء في قلب تدمير المدن والأماكن العربية المكتوب على جبينها الحروب التي تلد الحروب.

قلت: ربما تكون غزة هي «جريمة القرن» بامتياز، ليس فقط لأنها تمثل ذروة السادية وانهيار القانون الدولي، بل لأنها جردت العالم من أقنعته، وأعادت تعريف الإنسان العربي في مرآة النار والعزلة.

وإذا أحسن العرب قراءة هذه الجريمة لا بوصفها نهاية، بل بداية مكثفة لمأساتهم الكونية، فإن غزة قد تتحول من مذبحة إلى لحظة ميلاد، ميلاد نظرية جديدة، تولد من الرماد، وتعيد طرح السؤال الأقدم والأكثر وجعاً: متى نصير رقماً في المعادلة الدولية؟

على غرار الاتحاد الأوروبي، أو «البريكس»، ومنظمة شنغهاي، أو الاتحاد الأوراسي، أو حتى الاتحاد الأفريقي، والرقم الذي أعنيه أن يقوم على التعاون الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، بمعنى أن يكون العرب كتلة حضارية لا كتلة سياسية على نمط أحلام الستينات.

كان الدبلوماسي يصغي بإمعان. قلت يا عزيزي: لم تتوقف الحروب في هذه البقعة من الأرض منذ عام 1948، بل تحول الشرق الأوسط إلى «مختبر دائم لتجريب أجيال الحروب، من النكبة إلى الغزو الأميركي للعراق، من الانقلابات إلى الثورات الفوضوية، من الحرب النظامية إلى الحرب الأهلية، من الطائرات المقاتلة إلى الهجمات السيبرانية السرية، ومن الفوضى الخلاقة إلى تخليق المعارك الجانبية.

لا تزال إسرائيل حاضرة في كل هذا، تارة بصفتها فاعلاً مباشراً، وتارة بصفتها أداة لوجيستية في منظومة السيطرة. إنها الكيان الذي يمتحن حدود الفوضى الممكنة في المنطقة، ويسهم في إعادة تشكيلها بما يتماشى مع خرائط القوى الدولية.

كان الصديق الدبلوماسي في حالة إصغاء تام، حين تساءلت وأجبت، قلت له: علينا أن نطرح الأسئلة بجرأة: لماذا الشرق الأوسط وحده هو ساحة التدمير الدائم؟ لماذا لا يهدأ لبنان الجميل إلا لينفجر من جديد؟ لماذا تُحرق سوريا والعراق - وهما منبتا الحضارات - كل عقد، ويُشطر اليمن، وتُحول ليبيا إلى ساحة للتدريب على الرصاص؟ لماذا لا يتنفس المغرب العربي بعيداً عن هواجس الخوف، ولا يتخلص العرب جميعاً من قلق الوجود؟

كاد يجيب، لكني سبقته وقلت له: لأن هذه البقعة لم تُمنح حق الدخول في الحداثة العالمية، بل جرى تقطيعها كما تقطع المزارع الاستعمارية، وضبطت شعوبها متلبسة بالطائفية والولاء للأقوى، لا للعقد الاجتماعي ولا للمستقبل.

إن العرب يا صديقي لم يعرفوا الدولة بوصفها مشروعاً تاريخياً، ولم يتأسس مشروع عربي على نموذج الدولة بصفته عقداً اجتماعياً بين المواطنين، لهذا لم يكن الانتقال إلى الحداثة ممكناً، لأن التحديث كان سطحياً، وفوقياً، ونخبوياً، ومشروطاً بتبعية ثقافية واقتصادية.

منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، لم تعد غزة مجرد رقعة جغرافية محتلة، بل أصبحت ساحة اختبار للنظام الدولي كله، وملعباً مكشوفاً لأقسى تحالف في التاريخ الحديث، ولكن الأهم: أنها كشفت سقوط فكرة وجود المنظمات الدولية الحارس للنظام الدولي.

وكما نعلم أن التاريخ ماكر، فيمكن لمنطقة، لم تنعم بالتحرر، أن تصبح منبعاً لتجديد الفكرة العربية المهددة بالانقراض. ولا سبيل للخروج من هذه المتاهة إلا ببلورة «نظرية عربية شاملة»، لا تكون انعكاساً لهزائم الماضي ولا تقليداً لنظريات الآخر، بل تولد من سؤال المصير، وتؤسس على أربعة أعمدة:

أولاً، إعادة تعريف الهوية القائمة على المستقبل الحضاري المشترك.

ثانياً، تحرير الذات من المذاهب والطوائف والميليشيات.

ثالثاً، الاقتصاد القائم على التكامل العربي، وليس التفاضل.

رابعاً وأخيراً، ضرورة التحرر المعرفي والثقافي بخلق بنية فكرية عربية حديثة تنتج المعرفة، وتستلهم الثورة الصناعية الحالية من دون تردد.

قلت له: أطلت عليك أيها الدبلوماسي المتعب بقضايا الإقليم، ولكن لم يعد الانتظار ممكناً، يجب أن نبدأ بـ«المائدة العربية المستديرة»، مائدة تجمع المفكرين، والعلماء، والاقتصاديين، والمثقفين، لوضع ميثاق إنقاذ عربي.

غزة جرح مفتوح، لكنها أيضاً فرصة أخيرة. جريمة، نعم، لكنها أيضاً «علامة قيامة»، علينا أن نخرج من ركامها بفكرة، لا فقط بدموع، بفهم عميق، لا فقط بغضب عابر.

إن ما يحدث اليوم، إذا لم يتحول إلى نقطة انطلاق، فسوف يبتلعنا غداً في نسخته المقبلة: في بيروت أو الخرطوم أو طرابلس أو بغداد، أو صنعاء، أو أي عاصمة عربية أخرى.

نقلًا عن صحيفة الشرق الأوسط