مجلس التحرير: مجموعة صحفيين عرب
الموقع قدم أوراق اعتماده
الى نقابة الصحفيين العراقيين

"من الثورة إلى الإندماج"  كيف انتهى حلم الدولة الكردية ؟

نشر
الأمصار

في أعالي جبال الأناضول، وفي قلب منطقة مضطربة بالصراعات والهويات المتداخلة، ولِد حزب العمال الكردستاني (PKK) من رحم الغضب الكردي والتهميش الممنهج، ثم مضى يشق طريقه بالنار والدم في مواجهة الدولة التركية. 

PKK fighters destroy weapons at key ceremony in Iraqi Kurdistan

لكن القصة لم تكن مجرد حركة تمرد أو تنظيم مسلح، بل سردية قومية مشبعة بالأيديولوجيا، قادها زعيم مثير للجدل، عبد الله أوجلان، الذي تحول من طموح ثوري إلى أسير منعزل في جزيرة تركية، يدير الصراع برسائل ورؤى فلسفية من وراء القضبان.

النشأة في زمن القمع

في نهاية السبعينيات، كانت تركيا تشهد اضطرابات سياسية عنيفة، بين اليمين واليسار، والعسكر يلوّحون بانقلاب جديد.

 في تلك الأجواء، كان الأكراد يعانون من حرمانهم من أبسط حقوقهم الثقافية واللغوية، تحت دستور يرفض الاعتراف بوجودهم كشعب أو أمة.

Öcalan's Call for the Dissolution of the PKK and the Regional Context |  Moshe Dayan Center for Middle Eastern and African Studies

 اجتمع عبد الله أوجلان وعدد من الطلاب اليساريين الأكراد

في 27 نوفمبر 1978، اجتمع عبد الله أوجلان وعدد من الطلاب اليساريين الأكراد في قرية "فس" قرب دياربكر، ليؤسسوا حزب العمال الكردستاني، تحت شعار النضال المسلح من أجل "تحرير كردستان من الاحتلال التركي"، مستلهمين تجارب حركات التحرر العالمية من فيتنام إلى كوبا.

بدايات الحزب كانت أيديولوجية، تتبنى الماركسية-اللينينية وتؤمن بحرب الشعب طويلة الأمد.

 وكان هدفه المُعلن إقامة "دولة اشتراكية كردية" تضم المناطق التي يسكنها الأكراد في تركيا، وسوريا، والعراق، وإيران.

Turkish-Kurdish Conflict at a Turning Point: What's Next? | Geopolitical  Monitor

إعلان الحرب: 1984 وبداية التمرد

في 15 أغسطس 1984، أطلق الحزب أولى عملياته المسلحة ضد الجيش التركي في منطقتي إروه وشمزينان، معلنًا بذلك انتقاله من مرحلة التعبئة السياسية إلى الحرب المفتوحة. ومع مرور الوقت، توسعت العمليات المسلحة لتشمل الكمائن، وتفجيرات الطرق، واغتيالات عناصر الجيش والدرك، فضلاً عن زرع الألغام في المناطق الحدودية.

كانت الدولة التركية، في المقابل، ترد بقبضة أمنية عنيفة، تضمنت تهجير قسري لمئات القرى، واعتقالات جماعية، وإنشاء قوات "الحراس القرويين"، وهي ميليشيات محلية موالية للجيش. واستخدمت تركيا الأسلوب التقليدي في مواجهة التمرد: القوة المفرطة، مع تغييب أي حلول سياسية أو اعتراف بالهوية الكردية.

سنوات الدم والحرب 

امتدت الحرب الكردية داخل تركيا لأربعة عقود تقريبًا، قُتل خلالها، بحسب تقديرات رسمية وشبه مستقلة، أكثر من 40 ألف شخص، أغلبهم من المدنيين الأكراد.

 وشهدت البلاد عمليات قتل خارج القانون، واختفاءات قسرية، وتعذيب واسع، بالإضافة إلى استخدام الإعلام التركي في تجريم كل ما هو كردي.

وفي المقابل، تورط الحزب في عمليات تفجير استهدفت مدنيين في مدن كبرى مثل إسطنبول وأنقرة، ووقعت هجمات دامية على حافلات ومرافق سياحية، ما جعل الرأي العام التركي يصطف خلف الدولة.

العراق مشغول بمباحثات معمقة مع تركيا: كيف نتعامل مع سلاح PKK بعد حل الحزب؟  » +964

قواعد الجبال والحرب من الخارج

مع مطلع التسعينيات، بدأ حزب العمال يعزز وجوده في شمال العراق، وتحديدًا في جبال قنديل، مستفيدًا من فراغ السلطة بعد حرب الخليج، وانهيار مؤسسات الدولة العراقية في المناطق الكردية. أنشأ الحزب معسكرات تدريب، ومخازن سلاح، ومراكز قيادية في تلك الجبال، التي تحوّلت إلى قلعة محصّنة ضد الجيش التركي.

في تلك المرحلة، انخرط الحزب أيضًا في صراع داخلي مع قوى كردية أخرى، أبرزها الحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق، بقيادة مسعود بارزاني، والذي دخل معه في مواجهات مسلحة عام 1996. 

ورغم العداء مع بعض القوى الكردية، إلا أن الحزب حافظ على دعم شريحة واسعة من الأكراد، خصوصًا في شرق تركيا، عبر جناحه السياسي المعروف آنذاك باسم "حزب العمال الديمقراطي".

ANF | PKK : انطلاقة جديدة لحزبنا في عامه الـ 40

مطاردة أوجلان: من دمشق إلى كينيا

لسنوات، عاش عبد الله أوجلان في سوريا، برعاية النظام السوري، الذي استغل وجوده كورقة ضغط على تركيا في صراع المياه وحدود لواء إسكندرون.

 لكن التهديد التركي بشن حرب ضد سوريا عام 1998 دفع دمشق إلى طرد أوجلان، فبدأت رحلة هروبه الماراثونية.

تنقل بين روسيا، وإيطاليا، واليونان، ثم استقر في كينيا، حيث اعتقلته المخابرات التركية في فبراير 1999 بعملية معقدة، يُعتقد أنها تمت بتنسيق بين تركيا والولايات المتحدة وإسرائيل.

نقل أوجلان إلى تركيا بطائرة عسكرية وسط تغطية إعلامية ضخمة، وحوكم بتهمة الخيانة العظمى والإرهاب، وصدر بحقه حكم بالإعدام، قبل أن يُخفف لاحقًا إلى السجن المؤبد بعد إلغاء الإعدام في تركيا عام 2002.

أوجلان من السجن: الزعيم الفيلسوف

في زنزانته الانفرادية في جزيرة إيمرالي، شرع أوجلان في مراجعة أفكاره، متأثرًا بالفكر الليبرتاري والبيئة الاجتماعية.

 طرح ما بات يُعرف بـ"الكونفدرالية الديمقراطية"، كنموذج بديل لفكرة الدولة القومية، داعيًا إلى حكم ذاتي محلي وبيئة تعددية. ورغم سجنه، ظل أوجلان الزعيم الروحي للحزب، تُقرأ رسائله في احتفالات عيد نوروز، وتتبنى قيادات الحزب توجيهاته في العمل السياسي والعسكري.

عملية السلام 

في عام 2013، وبوساطة من رئيس الوزراء التركي آنذاك رجب طيب أردوغان، بدأت مفاوضات سرية بين الحكومة التركية وأوجلان. 

أعلن الأخير وقفًا لإطلاق النار، ودعا مقاتليه للانسحاب من تركيا، في إطار "عملية سلام تاريخية". لكن العملية انهارت عام 2015 بعد تفجيرات "سوروج" و"أنقرة"، واتهام الحكومة لحزب العمال بالتورط فيها، لتعود الحرب من جديد بوتيرة أكثر عنفًا.

Turkey-Kurdish conflict: PKK militants burn weapons in landmark step toward  peace | CNN

إعلان وقف القتال وحل الحزب

في مفاجأة سياسية غير مسبوقة، أعلن حزب العمال الكردستاني عبر بيان رسمي نُشر في مارس 2025، وقفًا كاملًا ونهائيًا للكفاح المسلح ضد الدولة التركية، داعيًا عناصره إلى التخلي عن السلاح والانسحاب من مواقع القتال، وذلك تماشيًا مع "تحولات إقليمية وعالمية، وتقديرًا للظروف الأمنية الصعبة التي تعيشها المنطقة"، بحسب نص البيان.

وأكد الحزب في البيان ذاته أنه "أنهى عمليًا مهامه العسكرية" وبدأ عملية حل هيكله التنظيمي المسلح تدريجيًا، بالتنسيق مع جهات محلية ودولية، مشددًا على أن "العمل المدني والسياسي هو المسار الوحيد للأكراد في تركيا".

هذا الإعلان التاريخي جاء بعد مفاوضات غير مباشرة جرت في شمال العراق بين وسطاء أوروبيين، وقادة من الصف الثاني في الحزب، وبموافقة صامتة من زعيمه عبد الله أوجلان، الذي أرسل رسالة من محبسه في جزيرة إيمرالي يدعو فيها إلى "إغلاق صفحة الدم والدموع"، والتركيز على النضال الديمقراطي في إطار الجمهورية التركية.

Turkish-Kurdish Conflict at a Turning Point: What's Next? | Geopolitical  Monitor

الامتداد السوري: وحدات الحماية وداعش

مع اندلاع الحرب في سوريا، برز ذراع جديد لحزب العمال: وحدات حماية الشعب YPG، التي تحوّلت إلى القوة الكردية الأكبر في شمال سوريا. 

قاتلت داعش بفاعلية، وشكّلت العمود الفقري لـ"قوات سوريا الديمقراطية" المدعومة أمريكيًا، ما أثار غضب تركيا التي اعتبرتها "امتدادًا إرهابيًا لحزب العمال".

ردّت أنقرة بعمليات عسكرية متتالية في سوريا: "درع الفرات"، و"غصن الزيتون"، و"نبع السلام"، لإبعاد القوات الكردية عن حدودها.

 بين الحظر والانقسام

اليوم، لا يزال حزب العمال الكردستاني محظورًا في تركيا ومعظم دول العالم، وتُشنّ ضده عمليات عسكرية مستمرة في شمال العراق وسوريا. لكن الحزب نفسه تغيّر؛ لم يعد قوة واحدة، بل أصبح شبكة من الفروع والجبهات، بعضها يؤمن بالعمل المسلح، وأخرى تنشط سياسيًا تحت أسماء جديدة، مثل حزب الشعوب الديمقراطي (HDP) الذي يُعد أبرز واجهة كردية سياسية في تركيا رغم تعرضه للقمع والحظر.

Who are Kurdistan Workers' Party (PKK) rebels? - BBC News

تاريخ حزب العمال الكردستاني ليس فقط سردًا لحرب طويلة، بل مرآة لتعقيدات المسألة الكردية في الشرق الأوسط، ولعجز الأنظمة عن إدماج هذا المكوّن الكبير في المعادلة السياسية. وبين صعود الثورة وسقوط الدولة، يبقى الحزب رمزًا لصراع لم يُحسم بعد، وزعيمه خلف القضبان شاهدًا حيًا على ثمن الحلم القومي حين يشتبك مع واقع إقليمي لا يرحم.