ملف المفقودين في سوريا.. تحول دبلوماسي أم صفقة تبادل؟

بعد أكثر من عقد من الجمود، عادت العلاقات بين واشنطن ودمشق إلى الواجهة، ولكن هذه المرة من بوابة إنسانية–سياسية، تفتح معها نافذة أمل لعائلات مفقودين ومخطوفين منذ سنوات.
لم يكن ملف أوستن تايس، الصحفي الأمريكي المختفي في سوريا منذ عام 2012، يومًا بعيدًا عن الأروقة السياسية، لكنه اليوم يعود ليحتل موقعًا متقدمًا على جدول التفاهمات الناشئة بين الجانبين، بعد إعلان رفع العقوبات عن سوريا وبدء خطوات تطبيع غير معلنة حتى الآن. فما الذي تغير؟ ولماذا الآن؟ وهل نحن أمام صفحة جديدة، أم مجرد فصل جديد من الضغط المتبادل؟
العودة إلى الطاولة.. برعاية ملف إنساني

في خطوة وصفت بـ"الجريئة"، أعلنت السلطات السورية استعدادها لمساعدة الولايات المتحدة في البحث عن مواطنين أمريكيين مفقودين أو تقديم معلومات بشأن رفاتهم، في ما بدا بداية جديدة لمسار التواصل السياسي بين دمشق وواشنطن، بعد أكثر من عقد من القطيعة والتصعيد.
المبعوث الأمريكي إلى سوريا، توم باراك، كتب عبر منصة "إكس": "لقد وافقت الحكومة السورية الجديدة على مساعدة الولايات المتحدة في تحديد أماكن المواطنين الأمريكيين أو رفاتهم لإعادتهم إلى بلدهم. إنها خطوة قوية إلى الأمام". هذا الإعلان أتى في توقيت بالغ الدقة، بعد يومين فقط من قرار إدارة ترامب رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، وهو ما فتح الباب لتكهنات حول وجود صفقة أوسع.
لقاء الشرع وباراك.. السياسة تفتح الأبواب

التطورات لم تقتصر على التصريحات الإعلامية، بل شملت لقاء مباشرًا جمع بين الرئيس السوري أحمد الشرع والمبعوث الأمريكي توماس باراك في إسطنبول. اللقاء وصفه باراك بـ"المثمر"، مؤكدًا أنه تناول عدة ملفات، في مقدمتها ملف المقاتلين الأجانب والعلاقات مع إسرائيل، إلى جانب ملف المفقودين.
وأشارت الوكالة العربية السورية الرسمية إلى أن اللقاء تركز كذلك على تنفيذ رفع العقوبات الأمريكية، حيث عبّر الشرع عن استمرار آثار العقوبات على الاقتصاد السوري، رغم رفعها رسميًا، مشددًا على الحاجة إلى خطوات عملية لدعم الاقتصاد الوطني، عبر استثمارات أجنبية خاصة في قطاعات الطاقة والبنية التحتية.
قضية أوستن تايس تعود للأضواء

الصحفي الأمريكي أوستن تايس، الذي اختفى في سوريا عام 2012، يظل محورًا حساسًا في هذا الملف. تايس، الذي كان يغطي النزاع لصالح عدة مؤسسات أمريكية مثل "واشنطن بوست"، اختفى في حلب أثناء تغطيته للقتال. بعد أسابيع، ظهر في مقطع فيديو وهو معصوب العينين ومقيد اليدين، وسط رجال مسلحين يرتدون زيًا أفغاني الطراز، في مشهد أثار الكثير من التكهنات.
حتى اليوم، لم تعلن أي جهة مسؤوليتها عن اختطاف تايس. وتفاوتت التقديرات الاستخباراتية بين احتمال وجوده لدى جماعة معارضة متطرفة أو تحت سيطرة النظام السوري. واشنطن طالبت مرارًا بمؤشرات تثبت أنه على قيد الحياة، لكن دمشق كانت ترفض الربط بين الملف الإنساني والسياسي.
ما وراء المشهد.. مقايضة أم انفتاح؟

العودة المفاجئة للحديث عن مفقودي أمريكا في سوريا تزامنت مع رفع العقوبات الاقتصادية، ما دفع مراقبين إلى الربط بين الحدثين. مسؤولون أمريكيون سابقون أكدوا أن دمشق طالما اشترطت تخفيف العقوبات وسحب القوات الأمريكية قبل الحديث عن ملفات مثل تايس. ورغم محاولات إدارة ترامب السابقة ولقاء وفد أمريكي مع مسؤولين سوريين في 2019، لم يتم التوصل إلى تقدم يُذكر.
الآن، مع تغير الإدارة في دمشق، يبدو أن هناك إعادة تموضع في أولويات النظام السوري، ربما بدافع اقتصادي، وربما لإعادة فتح قنوات دبلوماسية دولية. لكن ما زالت التساؤلات قائمة: هل يمثل إعلان التعاون في ملف المفقودين بداية لتطبيع تدريجي؟ وهل تخضع القضية الإنسانية فعلًا لمنطق المقايضة السياسية؟
ردود فعل متباينة في الداخل الأمريكي
في الداخل الأمريكي، تتباين المواقف بشأن صدقية دمشق. بعض المسؤولين والمراقبين يرون أن النظام السوري يستخدم ملف تايس كورقة ضغط دبلوماسية، بينما تتمسك عائلته بأمل لقائه حيًا بعد كل هذه السنوات، مدعومة بجهود بعض الإدارات المتعاقبة.
في المقابل، يرى آخرون أن هذه الخطوة -حتى لو جاءت ضمن مقايضة سياسية– تمثل بادرة إنسانية لا يمكن التقليل من أهميتها، خاصة إذا أدت إلى إعادة المفقودين إلى ذويهم، أو إغلاق ملف مؤلم امتد لأكثر من عقد.
احتمالات مفتوحة
تبقى الأسئلة مفتوحة، والإجابات مرهونة بما ستسفر عنه الشهور القادمة: هل تنجح واشنطن في الحصول على معلومات حقيقية بشأن مصير مفقوديها؟ وهل ستواصل دمشق تقديم تسهيلات إضافية في ملفات أخرى؟ أم أن ما يجري الآن لا يتعدى مناورة سياسية تستهدف رفع الضغط وتحسين شروط التفاوض؟

في النهاية، سواء كانت الخطوة إنسانية خالصة أم جزءًا من صفقة سياسية معقدة، فإنها تمثل تحولا مهما في طبيعة العلاقة بين البلدين، وتعيد تسليط الضوء على واحد من أكثر ملفات النزاع السوري حساسية وغموضًا.