د. أنمار الدروبي يكتب: مصادر الاستقرار واللاستقرار في النظام الدولي: دراسة تحليلية (1)

إن ثمة متغيرات داخلية وخارجية قد تسهم إما في استقرارية النظام الدولي أو عدم استقراريته. وإذ كنا نبحث حالة الاستقرار في النظام الدولي، ما نقصده هو عملية التفاعل بين وحدات النظام الدولي بالطريقة التي لا تؤدي إلى إحداث تغييرات جوهرية في أنماط بنيته الهيكلية.
حيث تمثل الرغبة في تسوية الأزمات بالوسائل السلمية والابتعاد عن الحلول العسكرية واستخدام الآلة العسكرية مع إتباع النخب الحاكمة سياسة الحفاظ على النظام وعدم استخدام أي وسيلة الغرض منها إحداث خلل أو تغيرات هامة في بنيته الهيكلية، وهذا ما يساعد على استقراريته. أما حالة اللاستقرار في النظام الدولي فهي تُعزى إلى الخلاف الإيديولوجي بين وحدات النظام الدولي والإمكانات والموارد المتاحة والدوافع الاقتصادية، بالإضافة إلى التناقضات في سلوك صناع القرار السياسي فيما يخدم مصلحة النظام الدولي والذي يؤدي إلى عدم استقراريته. وسنأتي لشرح مفصل عن المدخلات التي تسهم في حالة الاستقرار واللاستقرار في النظام الدولي.
المدخلات التي تسهم في استقرارية النظام الدولي: -
أولا: مدركات صناع القرار:
تعتبر عملية صنع القرار السياسي محل اهتمام علمي في الدراسات السياسية بمجالاتها المختلفة وفروعها المتباينة. ولم تعد عملية تحليل صنع القرار السياسي قاصرا على القرارات الداخلية في الدولة، بل شملت القرارات التي تتخذها الدولة في النطاق الخارجي، لذلك أضحى التمييز بين ما يسمى قرارا داخليا أو خارجيا أمرا مهما في عملية صنع القرار السياسي. عليه فإن محددات البيئة الداخلية تتمثل في طبيعة القيادة السياسية ودرجة تماسك المجتمع الداخلي بالإضافة إلى القدرات المتاحة. أما فيما يخص محددات البيئة الخارجية أبرزها هي طبيعة التحالفات والتوازنات القائمة. وما نقصده بمدركات صناع القرار، هي الرؤى والتصورات التي تتشكل لدى صانع القرار السياسي والتي يجب أن تكون على أسس معرفية لواقع البيئتين الداخلية والخارجية للنظام الدولي لكي يحدد صانع القرار السلوك السياسي للنظام.
ويستقر النظام الدولي عندما تتوفر لدى صانع القرار السياسي قناعة تامة وراسخة بعدم جدوى تغيير النظام. لاسيما إن دراسة عملية صنع القرار السياسي تعد مدخلا مهما في فهم طبيعة النظم السياسية في جميع دول العالم بصفة عامة. فعملية تحليل صنع القرار تكشف عن مدى ديمقراطية الأنظمة الحاكمة في العالم،ودرجة تطور هذه الأنظمة، وتوجهات الدولة من خلال القرارات السياسية المختلفة للنخبة الحاكمة، وكيف يديرون الدولة من خلال القرارات السياسية المختلفة ولصالح من؟ وأساليب هؤلاء في صنع واتخاذ القرارات؟ كلما اتسعت دائرة المشاركة في صنع القرار السياسي من حيث عدد الأفراد، ومن حيث أدوار المؤسسات الدستورية الفعلية، كلما كشف ذلك عن تطور في أداء النظام السياسي.
فالقرارات كما يعرفها (ديفيد إيستون) "ﺒﻤﺜﺎﺒـﺔ ﻤﺨﺭﺠـﺎﺕ النظام السياسي ﺃﻴﺎ ﻜﺎﻥ ﺸﻜﻠﻪ ﻭﺍﻟﺘﻲ ﻴﺘﻡ ﻤﻥ ﺨﻼﻟﻬﺎ ﺍﻟﺘﻭﺯﻴﻊ ﺍﻟﺴﻠﻁﻭﻱ ﻟﻠﻘﻴﻡ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺴـﻭﺍﺀ كانت هذه القيم داخلية أو خارجية.
وتأسيسا لما تقدم يمكن القول إن حالة الاستقرار ترتبط إلى حد بعيد بتصورات ورؤى (مدركات) صناع القرار السياسي وبمدى رغبتهم في إحداث تغييرات هيكلية في بنية النظام الدولي، حيث أنهم يضعون في اعتباراتهم حساب الكلفة والمنفعة عند إقرار السياسة الخارجية. بمعنى أن صناع القرار السياسي سيسعون لتغيير النظام فقط في حالة أن هذا التغيير سيكون مربحا.
ثانيا. سياسات توازن القوى:
يمثل توازن القوى كسياسة، إحدى أهم الوسائل الفاعلة في استقرارية النظام الدولي، ذلك أن النظام الدولي المستقر هو انعكاس لصورة الوحدات الدولية المتوازنة التي تجعله بمنأى عن حالة التوتر واللاستقرار. أن الفكرة الكامنة وراء نظام توازن القوى في السياسة الدولية هي أن الطابع المميز لها هو الصراع. وهذا الصراع تمليه متغيرات الاختلاف في المصالح القومية للدول. علاوة على محاولة كل دولة زيادة قوتها القومية على حساب غيرها من الدول.
ثالثا. المنظمات الدولية:
تعتبر المنظمات الدولية إحدى الأدوات المهمة التي تعمل على استقرارية النظام الدولي، التي من أهدافها ردع العدوان والسياسات الرامية إلى تغيير الأوضاع المستقرة في المجتمع الدولي، وهذه لا تتحقق إلا بمواجهتها بقوى متفوقة في نطاق العمل الجماعي، وفي إطار العمل المؤسسي عبرت عنه المنظمات الدولية كعصبة الأمم والأمم المتحدة. إن عمل المنظمات الدولية يسعى إلى تدعيم السلام والاستقرار الدوليين عن طريق إنشاء محور قوي يضم أعضاء النظام ضد الدولة أو الدول التي تحاول إحداث تغييرات جوهرية في بنية النظام الدولي. وبالرغم من بعض مظاهر العجز الذي أصاب العمل الوظيفي للأمم المتحدة، لكنها تمكنت من تقديم سبل التعاون بين أعضاء المجتمع الدولي وخلق فرصا للحوار فيما بينهم في القضايا ذات الاهتمام المشترك.
رابعا. التعاون الوظيفي:
يعتبر التعاون الوظيفي (التكامل الوظيفي) عاملا أساسيا، والذي من شأنه يسهم في استقرارية النظام الدولي ويزيل مظاهر التوتر ومسببات الصراع. يمثل مفهوم الوظيفة على إن تزايد التعقيد في النظم الحكومية أدى إلى تزايد كبير في الوظائف الفنية وغير السياسية التي تواجه الحكومات ومثل هذه الوظائف لم تؤدي فقط إلى زيادة الطلب على الاختصاصيين المدربين على المستوى الوطني، ولكنها لعبت دورا في المشكلات الفنية على المستوى الدولي، وإذا أصبح من الممكن ايلاء مثل هذه المشكلات إلى المختصين وفصل نشاطهم إلى حد ما عن القطاع السياسي فإنه من الممكن والحالة هذه إنجاز التكامل الدولي.
بالتالي فإن استقرارية النظام الدولي وفق مفهوم الوظيفة يؤدي إلى خلق تعاون في مجالات أخرى، وأهمها تلك التي تساعد على تدعيم الاتجاه نحو خلق السلام والاستقرار الدوليين. وينطلق من موضوع التعاون الوظيفي اتجاهين (الاتجاه الواقعي، الاتجاه الوظيفي)، حيث أكد أنصار الاتجاه الواقعي على جدلية العلاقة بين القوة والمصلحة القومية، والتي ترى أن العلاقات بين القوى الأساسية والفاعلة في النظام الدولي ما هي إلا علاقات صراع تحكمها القوة ومتطلبات المصلحة القومية. تذهب نظرية التعاون أو التكامل الدولي إلا إن هذه العلاقات القائمة بين القوة الرئيسية في النظام الدولي،وإن كانت تحكمها عوامل الصراع القوة لتحقيق المصالح القومية. فإن هذه المصالح يمكن إنجازها وفق سبل أخرى يأتي التعاون في مقدمتها. وذلك لما ينطوي عليه من فوائد تعم الأطراف المعنية. إذ في الوقت الذي يقود فيه الصراع واستخدام القوة إلى حالة من الفوضى وعدم الاستقرار، فإن التعاون يفضي إلى السلام والاستقرار ومن ثم توفير مستويات متقدمة من الشعور بالأمن. أما منهج أنصار الاتجاه الوظيفي فهو يعمل على إعادة النظر في معنى الرفاهية والمصلحة القومية بهدف إعطائها مضامين جديدة.