زيد بن كمي يكتب: «القيم السعودية بعيون ترمب»

حينَما اعتلى الرئيس الأميركي دونالد ترمب منصة المنتدى السعودي - الأميركي في الرياض أولَ من أمس، أدلى بشهادةٍ مهمة وهو يخاطب الحاضرين. ولم تكن في شهادته هذه أي مجاملة أو مداراة حين قالَ إنَّ «السعودية الرائعة بُنيت بأيادٍ سعودية وبثقافةٍ عربية».
لم تكن تلك الجملةُ مجردَ إشادة، بل إعلانٌ لفهمٍ أميركي جديد لطبيعةِ العلاقة مع دولةٍ تمضي إلى المستقبل بخطىً ثابتة من دون أن تتخلَّى عن إرثها، أو تنزعَ عباءتَها الأصيلة.
هذا التصريحُ لم يكن بروتوكولياً أو كلاماً عابراً في خطاب رئيس جاء في زيارةٍ تاريخية، بل كانَ ترسيخاً لمبدأ سعودي ثابت، وهو أنَّ القيم ليست موضعَ نقاشٍ، واحترامَ قيم الشعوب وأعرافها وتقاليدها مبدأ راسخ بل شرط لبناء الثقة واستمرار الشراكة.
إنَّها المرةُ الأولى التي يقرُّ فيها رئيسٌ أميركي بهذه المباشرة أنَّ السعودية لم تُبنَ بشعارات مستوردة، ولا بتدخلات ناعمة، بل بأيدي رجالِها، وبعقولهم، وقيمِهم، وقراراتِهم المستقلة.
لقد جاءَ هذا التصريح بمثابةِ الإجابة غير المباشرة عن السؤال المطروح دائماً في أروقة السياسة الأميركية وهو: «ماذا تريد السعودية. الجواب لم يصدرْ هذه المرة من الرياض، بل من واشنطن نفسِها، حينَ قالَ ترمب ضمناً: نحترم خصوصيتكم... أنتم تريدونَ الاحترامَ... وتستحقّونه».
هذا التوصيفُ من ترمب لم يكن معزولاً عن مسارٍ جديد تشقُّه السَّعودية بثقة، فالمملكةُ العربية السعودية لم تستجدِ دعماً، ولم تنتظرْ توجيهاً، بل تبني تحالفاتِها وتعيد تعريفَ موقعها في العالم بلغتِها الخاصة، وأدواتِها، ومنطقِها السيادي، فهي لا تمرُّ بمرحلةِ انتقال، بل تعيش مرحلةَ إثبات، حيث تتحدَّث المنجزات نيابةً عن الخطابات، ويقف القرارُ الوطنيُّ في مواجهة كل محاولات الإملاء.
ولعلَّ من اللافتِ أنَّ هذا الاعتراف العلني من ترمب، جاء بعد سنواتٍ مع لحظةٍ سياسية أخرى لا تقلّ أهمية، حين استقبلَ الأمير محمد بن سلمان وليُّ العهد السعودي الرئيسَ الأميركي السَّابق جو بايدن في جدة، ففي ذلك اللقاء، الذي نقلتْ تفاصيلَه وسائلُ الإعلام العالمية، لم يكنِ الخلافُ على الملفات هو مركزَ الحدث، بل كانَ الجوهر هو «القيم»، فحينمَا حاول بايدن طرحَ موضوعِ القيم من منطلقِ الموقف الأميركي، جاءَه الرَّدُ من الأمير محمد بن سلمان بأنَّ لكل دولةٍ وشعب خصوصيتَهما، وأنَّ القيمَ لا تُفرض من الخارج، ولا تُختزل في خطابٍ سياسي، قائلاً: «من المهم معرفة أنَّ لكل دولة قيماً مختلفة ويجب احترامها».
كانَ ذلك الموقفُ امتداداً طبيعياً للرسالة السعودية بأنَّها ليست دولةَ ردود أفعال، بل دولةُ مواقف تُبنَى على قاعدةٍ من السيادة، والاعتزاز بالهُوية، واستقلال القرار.
منذ اللقاءِ التاريخي بين الملك عبدِ العزيز والرئيسِ روزفلت على ظهر البارجة كوينسي، والسعوديةُ ترسم علاقتَها مع واشنطن على قاعدة: «نريد الصداقة... لا التبعية»، واليوم، بعد عقودٍ من التحولات، يعيد ترمب رسمَ هذه المعادلة، ويضيفُ إليها بُعداً جديداً يعترفُ فيه بعمقِ الهُوية السعودية وثقافتِها الراسخة.
خطابُ ترمب لم يكن إشادة، بل اعتراف بأنَّ السعودية لم تعد الحليف الذي يُقرأ من الخارج، بل الشّريك الذي يكتب موقعه ومكانتَه من الداخل، ففي لحظةٍ يُعاد فيها رسمُ خرائط القوة، وتُختبر فيها حدودُ السيادة، تؤكّد السعوديةُ أنَّها لم تغيّر ثوابتَها لتكسبَ الأصدقاء، بل ثبتت موقعَها، فاحترمها الجميع.
التحالفاتُ لا تُبنى بالوصاية... بل بالاعتراف، والسَّعودية لم تطلب من ترمب أن يعترف، لكنَّه فعل... وهذا هو الفارق.
نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط.