رئيس مجلس الإدارة
د. رائد العزاوي

د. عبد الحفيظ محبوب يكتب: مؤتمر السلام في جدة نزع فتيل حرب عالمية ثالثة

نشر
الأمصار

كان نتيجة الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي أن ظهرت دول عدم الانحياز إلى أي من المعسكرين المتصارعين الناتو ووارسو، ونجح تجمع باندونغ في إندونيسيا عام 1955 في جمع 29 دولة حضرت المؤتمر التأسيسي وكان المؤتمر بقيادة رئيس وزراء الهند جواهر لال نهور وعبد الناصر والرئيس اليوغسلافي تيتو لم يمر عقد واحد من الزمن إلا وأن هذه الدول التي دعت للمؤتمر ارتمت في حضن الاتحاد السوفيتي إلى أن تحولت دفة السياسات المصرية في زمن السادات إلى واشنطن.

السؤال هنا كيف تمكنت السعودية من قيادة مؤتمر السلام بين الجانبين الغربي والشرقي بعدما رفضت الصين حضور مؤتمر السلام في كوبنهاجن وحضرت في مؤتمر السلام في جدة، ما يعني أن السعودية التزمت الحياد الإيجابي، رغم أنه أكثر تكلفة، والجميع يدرك حينما رفضت السعودية الاستجابة للولايات المتحدة أن تشارك في تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان، لكنها أيدت قرارات مجلس الأمن الدولي التي تدين الغزو الروسي وكذلك ضم روسيا لأراضي في شرق أوكرانيا، والتزمت الحياد رغم ذلك وصفت واشنطن السعودية بأنها ترقى إلى التحالف مع روسيا في الحرب بعدما قادت السعودية تخفيضات إنتاج النفط في أكتوبر 2022، لكن السعودية لم تكترث بمثل هذا الاتهام، ودعت في المقابل زلينسكي إلى القمة العربية في مايو 2023 بجانب تقديم لأوكرانيا مساعدات إنسانية.

 أي أن السعودية كانت تناصر القضايا العادلة في العالم وعلى رأسها أمن الطاقة وتأكيد حرية تلك الأسواق واستقلالها عن الأزمات السياسية، ما جعل الولايات المتحدة تختار السعودية لعقد هذا المؤتمر لأنها أثبتت حيادها الإيجابي وقبلت الصين حضور المؤتمر، باعتبار ان السعودية تبنت استراتيجية توازن كلاسيكية يمكن أن تخفف من أي موقف روسي مناهض لاجتماعات جدة، وبسبب علاقة السعودية مع روسيا في عدد من الملفات فلن تعتبر روسيا مثل هذه المبادرة أمرا غير مقبول، لوقف القتال في أوروبا الذي لم يقع مثله في أوروبا منذ 1945 الذي بدأ منذ 24 فبراير 2022 التي سميت بعملية عسكرية خاصة ولم تكن كذلك بل تحولت إلى غزو واسع النطاق.

أدركت السعودية حقيقة المشهد الجيوسياسي العالمي، وأن الحرب في أوكرانية سوف تنتهي بشكل أو أخر، بينما الأزمة الحقيقية المستمرة والمقلقة للولايات المتحدة هو صعود الصين والقوة القطبية المستقبلية، وتحول الصين إلى محور جذب لكثير من دول العالم عبر مشروعها التنموي الذي ترغب فيه كل الدول الحزام والطريق، حيث تعتبر السعودية المركز المتوسط والرابط لهذا المشروع بين الشرق والغرب، وهو ما جعل واشنطن تنزعج من امتناع 30 دولة عن إدانة روسيا حتى أن سفيرة واشنطن لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلدا قائلة تعتقد بعض الدول ان الامتناع عن التصويت هو حياد إيجابي، لكنه ليس حيادا، لا يمكنك تكون محايدا في مواجهة هذا النوع من الأحداث.

رغم ذلك وجدت واشنطن أن السعودية تمتلك روافع مع روسيا والصين، وهي الوحيدة القادرة على إدارة مثل هذه القمة، خصوصا حينما تلتقي بكين التي تمتلك روافع عميقة مع روسيا مع السعودية التي أيضا تمتلك روافع مع موسكو فيكونان قادران على ضبط إيقاع هذه الحرب، ومباحثات جدة غير مؤدلجة تندرج في إطار سياسة اقتصادية وأمنية أكثر براغماتية، وهي تدحض السرد الذي يتردد دائما روسيا أم الغرب؟.

 باعتبار أن السعودية قوة وسيطة عالمية لديها القدرة على التوسط في النزاعات، وبدعم الهند والبرازيل وهي دول في بريكس وبشكل خاص الهند التي أكدت حضورها في جدة، واصفة ذلك بانه يتماشى مع موقف الهند الراسخ بان الحوار والدبلوماسية هما السبيل إلى الأمام، كما تشارك الصين في محادثات جدة من خلال مبعوثها إلى أوكرانيا لي هوي، وقد أبدت الصين تصميمها على مواصلة لعب دور بناء من أجل تسوية سياسية للأزمة الأوكرانية، ما يعني أن جهود الصين تلتقي بل تدعم جهود السعودية في إحلال السلام الدائم، خصوصا وأن الدعوة أتت هذه المرة من واشنطن التي نفسها سعرت هذه الحرب، وبعدما حققت أهدافها، تتجه نحو وقف هذه الحرب بعدما شعرت أن تكاليف هذه الحرب أصبحت باهظة وقد تشعل شرارة حرب عالمية ثالثة.

 خصوصا بعدما وجدت أن أمن أوروبا على مرجل متقد، وطبعا سيستمر الحصار التقني والسياسي والاقتصادي على روسيا، لكن لو واصل حلف الناتو شحذ أسلحته ستضطر روسيا إلى استخدام البدائل عندما تجد نفسها عاجزة عن مواجهة هذا الحلف الذي يمتلك من القوى ما لا تمتلكه هي سوى النووي خصوصا بعدما أثار الغرب بوتين عندما حضروا في مؤتمر في لتوانيا بالقرب من روسيا، واجتماع بايدن مع قادة عشر دول أوروبية شمالية إضافة إلى بريطانيا لتشكيل تحالف عسكري جديد في شمال أوروبا لتهدئة روع هذه الدول من روسيا، جعل بوتين يتجه نحو إرسال قوات فاغنر لاستعادة ممر سواكي بين لتوانيا وبولندا الواصل بين بيلاروسيا وكالينغراد الروسية، بجانب الاجتماع الأخير بين بوتين وقادة أفريقيا في سان بطرسبرغ في 27 يوليو 2023 وخص ست دول بشحنات مجانية من الحبوب الروسية من 25 إلى 50 ألف طن من الحبوب لبوركينا فاسو وزيمبابوي ومالي والصومال وجمهورية أفريقيا الوسطى وإرتيريا على خلفية قلق دول أفريقية من توقف اتفاقية تصدير الحبوب الأوكرانية في البحر الأسود، حيث يعتبر بوتين أن القمة الروسية الأفريقية شيفرة لكسر عزلة روسيا.

 أي أن الصين استفادت من زمن الحرب الباردة وتحاشت تماما الصراع الأيديولوجيا، واستخدمت ورقة التنمية الاقتصادية وهي ورقة ترحب بها كل الدول لأن بكين لا تشترط عليهم الابتعاد عن واشنطن، وفي نفس الوقت مشروعها مختلف تماما عن المساعدات التي يقدمها الغرب للدول مقابل مواقف جيوسياسية، رغم ذلك لكنها لم تتخلى عن دعم روسيا سرا وهذا ما اكتشفه الغرب، بينما السعودية وقفت على الحياد تماما بين الجانبين.

لكن بكين بما تملكه من روافع في موسكو تضغط وتتحرك بكل وزنها، وما لدى تركيا من جغرافيا فهي أيضا منخرطة في اتفاقية الحبوب لكنها مؤخرا فشلت، لكن بعد إطلاق مائة مليون قذيفة لأكثر من 520 يوما حتى بداية يوليو 2023 لم تتمكن لا روسيا من تحقيق أهدافها المعلنة، كذلك يبدو أن تحرير أوكرانيا تحرير أراضيها لن يتيسر حتى تقوم حرب نووية بعد صدام بين الجانبين، ولن يتمكن الطرفان من استمرار الحرب طويلا لأن التكاليف ستتحملها الدول الغربية وهي باهظة الثمن.

 السؤال الأبعد هل سيكون وقف القتال على غرار وقف إطلاق النار في اتفاق مينسك عام 2014 من قبل مجموعة الاتصال الثلاثية تتألف من أوكرانيا وروسيا ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا بوساطة زعماء فرنسا وألمانيا فيما يعرف بصيغة نورماندي بعد محادثات مكثفة في مينسك في بيلاروسيا لكن فشل الاتفاق تبعها اتفاقية منقحة مينسك الثانية في 12 فبراير 2015 وعادت الحرب في 2022، أم على غرار وقف إطلاق النار بين الكوريتين الشمالية والجنوبية في 27 يونيو 1953 في مدينة بانمونغوم ورسم منطقة منزوعة السلاح بين البلدين بعرض أربعة كيلومترات تمتد على مسافة 241 كيلومترا وضعت هذه الهدنة حدا للحرب.