رئيس مجلس الإدارة
د. رائد العزاوي

د. حسين هندواي يكتب : علي الوردي والفلسفةفي الذكرى 28 لوفاته في 13 تموز 1995

نشر
الأمصار

ولد الدكتور علي الوردي في الكاظمية ببغداد عام 1913. وفي عام 1931 التحق بالدراسة المسائية في الصف السادس الابتدائي ثم اكمل دراسته وأصبح معلما. وبعد اتمامه الدراسة الثانوية أرسل ضمن بعثة دراسية إلى الجامعة الأمريكية في بيروت فحصل على البكالوريوس فأرسل من جديد إلى جامعة تكساس حيث نال الماجستير عام 1948 والدكتوراه عام 1950. وبعد عودته الى البلاد، عين في نفس العام مدرسا لعلم الاجتماع في كلية الآداب في جامعة بغداد. أحيل على التقاعد بناء على طلبه ومنحته جامعة بغداد لقب (استاذ متمرس) عام 1970.
ساهم بشكل مباشر في انطلاق النشاط الفلسفي خلال القرن الماضي في العراق وأيضا في تطوره عبر قيامه لفترة من الزمن بالتدريس في قسم الفلسفة بجامعة بغداد لا سيما خلال السنوات الاولى من تأسيسه في 1949. بيد ان استفادة الوردي من الفلسفة كبيرة ومعقدةهي أيضا، بل حاسمة أحيانا في اكتشاف وتنسيق مبادئ منهجه الخاص في علم الاجتماع وأيضا في بلورة مفاهيم جوهرية تخصّ اطروحاته المحورية في تحديد طبيعة الشخصية العراقية.
وعلى العموم، وكأي باحث او مفكر متخصص في دراسة أحوال المجتمعات البشرية لتكوين استنتاجات نظرية عامة، اهتمّ علي الوردي مبكرا بالفلسفة، هذا الميدان المعرفي الذي ولد علم الاجتماع فيه اصلا. بل ان اهتمامه به فاق بكثير في رأينا مثيله لدى كافة نظرائه العراقيين والعرب من علماء الاجتماع.  
والوردي لم يعتنق مذهبا فكريا او فلسفيا رغم تأثره العميق والمعلن ببعض الفلاسفة العرب والمسلمين مثل المعتزلة والغزالي والمتصوفة الى جانب عبد الرحمن بن خلدون الذي أخذ عنه نظرية "صراع البداوة والحضارة"، ليطبقها بطريقته الخاصة المتأثرة ايضا بالمنهج التجريبي لفرانسيس بيكون والمنهج الوضعي لأوغست كونت. وتأثره من جهة ثانية بمنجزات علم الاجتماع الاميركي المتحرر نسبيا من المنظومات الفلسفية التقليدية والايديولوجية، ولا سيما نظرية "ازدواج الشخصية" لروبرت ماكيفر، ونظرية (التناشز الاجتماعي) لعالم الاجتماع الامريكي وليم اوغبرن، اضافة الى نظريات علماء الاجتماع الكلاسيكيين مثل اوغست كونت مؤسس علم الاجتماع التجريبي، او وليم جيمس، او غيرهم.
وعلي الوردي استفاد من الفلسفة الهيغلية أيضا، اذ يعتبر هيغل "من اعظم الفلاسفة الذين ساهموا في انشاء منطق الصيرورة الحديث"، لأنه "بنى نظريته على اساس ان التناقض اصيل في طبيعة الاشياء، وبهذا هدم جزءا كبيرا من المنطق القديم الذي قام على اساس عدم التناقض". ومن المرجح ان ضعف اهتمام الجامعات الامريكية عموما آنذاك بدراسة فلسفتي هيغل وماركس، كان السبب المباشر في منع الوردي من التعمق بدراسة مؤلفات اساسية لهما لا سيما النصوص ذات العلاقة بالديالكتيك. صحيح ان نقل مفاهيم الفلسفة حرفيا الى ميدان علم الاجتماع او الى غيره من المجالات ليس ممكنا او خلاقا بالضرورة. الا أن الديالكتيك الهيغلي يماثل الجدل الخلدوني في فلسفة التاريخ، ولا سيما في القضايا التي تمس التطور الدوري في نشوء وانهيار الدول والحضارات وفهم اسباب ظاهرة العمران البشري وديناميتها وغيرها من المحاور التي يخبرنا الوردي بأن المنظور الخلدوني كان فيها محط اعجابه. وبالفعل، فان اكتشاف الوردي لمنطق ابن خلدون هو العامل الاعظم في النقلة الكبرى التي حققها فكره اللاحق على انجاز اطروحته الجامعية، اذ منحه على الاقل منهجية جديدة عمقت اصالته التي اثراها استخدامه الواعي والعنيد لتلك المنهجية في البحث.
وواضح ان اطلاع الوردي على كتاب "فلسفة التاريخ عند ابن خلدون" لاستاذ الفلسفة العراقي محسن مهدي، والصادر بالانكليزية في عام 1957 كان السبب المباشر في اكتشافه لجوهر منطق ابن خلدون. اذ يمتاز هذا الكتاب بكونه اول بحث من نوعه يدرس الناحية الفلسفية والمنطقية في النظرية الخلدونية حول العمران البشري، بعد ان كان الباحثون قبل محسن مهدي لا يشيرون الا الى الناحية الاجتماعية منها. والوردي يسجل تقديره الصريح لهذا الكتاب واعجابه بمحسن مهدي وموافقته على الكثير من آرائه، رغم انه يخالفه جذريا في القول بأن ابن خلدون جرى في نظريته الاجتماعية على نفس المبادئ المنطقية التي جرى عليها افلاطون وارسطو ومن تابعهما من فلاسفة الاسلام. 
كل هذا وسواه يؤكد أهمية استفادة علي الوردي من الفلسفة ولا سيما من العطاء الفلسفي العراقي المعاصر الذي ساهم هو أيضا في انطلاقته الخلاقة.