رئيس مجلس الإدارة
د. رائد العزاوي

د.عمرو عبد المنعم يكتب: مقابر المصريين.. ضحية مافيا "التُربية"

نشر
د. عمرو عبد المنعم
د. عمرو عبد المنعم

لحظات الموت عند المصريين  لها طقوس خاصة وعادات وتقاليد ذات طبائع دينية ومتوارثة، تجعلك تقف متهيبا هذا الباب الذي يفصل الموت عن الحياة، طقوس تمتد من ليلة الموت إلى الجنازة وتورية الجسد التراب وزيارة المقابر واجتماع الأهل للذكرى والرحمة والرضوان.
مقابر المصريين أو جباناتهم وقرافاتهم تمتد زمانًا ومكانًا من اقصي الغرب عند الأهرامات وأبي الهول إلي اقصي الشرق إلي مقابر مدينة نصر وطريق السويس والسادس من اكتوبر مرورًا بقلب القاهرة العامر بالمساجد ثم البساتين وسيدي عقبة والمجاورين وباب لنصر . 
وما بين هذا التباعد الزماني والمكاني تنتشر مدافن اليهود والأقباط بعضها ينتمي إلي عصر ما قبل دخول الإسلام، وبعضها من عائلات مصرية كبيرة ذات حسب ونسب . 
ومع الامتداد العمراني والجغرافي أصبحت مدافن القاهرة مطمعًا لبعض رجال الأعمال والمستثمرين بل ومن ساكني هذه القبور من واضعي اليد والعاملين علي حراستها والغفرة عليها وأصبحت مطمعًا لبعض ذوي النفوذ وطرحت فكرة غامضة لاستخدامها عمارات سكنية ومقارات إدارية بدون تقدير لقيمتها التاريخية والمعمارية وأصاب بعض هذه المقابر العطن وظهور مياه جوفية في عمق المقبرة يهدد تاريخ المكان وعبقه التاريخي . 
ثقافة الموت عند المصريين
لكل عائلة كبيرة مدفن خاص سواء حوش أو عين تضم مقابر، ولمن لا يوجد له مدفن يطلقون عليه أنه يدفن صدقة او سفاحًا  ، يكتب المصريون علي قبورهم أو جباناتهم اسم المتوفي وتاريخ وفاته متبوعا باسم العائلة، ويزينون المقابر بالزهور والصبار وشجر الكافور . 
خطاب الموت والحزن والبكاء والعويل ليس فقط علي المتوفي ولكن في كثير من الأحيان علي ألم الذكريات وفراق الأحباب وعلي أوضاع أهله الاجتماعية والنفسية بعد الفراق؛ فقد يكون المتوفي رب الأسرة أو العائل الوحيد القادر علي العمل والكسب في أسرة فقيرة متواضعة لا تملك قوت يومها أو حتي المسكن الذي يقيمون فيه . 
ومن خلال عمل سرادق العزاء يكون الانطباع الأول عن العائلة، سرادق عزاء كبير بقده وقديده سواء أمام منزل العائلة أو في دار مناسبات قريبة من المكان أو في أقرب مسجد ينزل إليه الجيران والأهل والأقارب، سرادق عزاء يليق بهذا الحب وهذه المكانة، ومن خلال صوت المقرئ الجليل وخطبة الموت التي يلقيها في السرادق تكون العظة والعبرة.
ثقافة المصريين تجاه الموت في خطر، والتداخل بين الموت والحياة في الشوارع المصرية أصبح بلا خطوط فاصلة فالفروق هشة ومروعة، وتحتاج ضبطا نفسيا ودينيا واجتماعيا وقانونيا لردع المعتدين على حرمة الحياة.
مقابر المصريين وجباناتهم وقرافاتهم في خطر فالزحف العمراني دخلها من أواخر السبعينات من القرن الماضي، وزحف ذلك العمران على مقابر البساتين والمجاورين وباب النصر، وهي مقابر عتيقة وبعضها له طابع أثري فريد أو مرتبط بشخصيات تاريخية معروفة وعائلات كبيرة، وكثير منها ذو طابع معماري فريد من العصور الإسلامية المتعاقبة، فتجد في مقابر المماليك القباب والزخارف البديعة التي لا يطمسها زمان.
عادة ما تحتوي المقبرة علي مدخل كبير من غرفتين أو اربعة بجانب غرفة مطبخ ومرحاض بالإضافة إلي حديقة صغيرة  تطل علي المقبرة الرئيسية  بها شجر جميل . 
سكان المقابر
ثم حين تدلف داخل المقابر ستجد مجموعة من البشر الانتفاعيين والوصوليين يسيطرون على كل شيء، مافيا من التجار المحترفين،  مسجلين خطر، سكان مقابر بؤساء، شبكة تدير صناعة الموت. 
يقدر عدد من يسكن المقابر في احدي الدراسات بنصف مليون مواطن علي الأقل، هؤلاء الأحياء علي المقابر إلي جانب الموتى، يتكاثرون ويأكلون ويشربون، يظن بعض الناس أنهم مهمشون يقاومون الموت جوعًا وعطشًا بجانب موتي يقاومون الفناء بكتابة أسمائهم وألقابهم الزائلة أو نقش ايات من القرآن الكريم علي قبورهم. 
تحولت طقوس الدفن وزيارة هذه القبور إلي بزنس من بيع الورود وقراءة القرآن الكريم واستهلاك فطائر الرحمة والنور  وتلقي الصدقات ورعاية اشجار الجهنمية والصبار والكافور حول المقابر إلي جباية إلي كل من يدخل المقابر بل يسيطر الغفراء وحرّاس المقابر علي عملية الزيارة وفتح المقبر للدعاء وأصبحت مقابل الزيارة الواحدة إلي ثلاثمئة إلي خمسمئة جنيها في الزيارة الواحدة . 
اصبحت تمارس في عشش بجانب المقابر مافيا الترميمات العشوائية وصناعة الحرف الصغيرة والمنتجة للتلوث و الضوضاء والحياة المزعجة ومزيج غريب حائر بين الأموات والأحياء تعايش مادي للموت متخم بالدلالات وممارسة خطابية يصعب فهمها والتعايش معها 
يذكرنا ذلك برواية "تراب الماس" لأحمد مراد  وقارورة البودرة السحرية التي حصل عليها من ساكني القبور التي تستعمل في الأساس لتلميع المجوهرات والحي، والتي استخدمت كسُم قاتل ذي مفعول بطيء، ويبقى بطل القصة  مستنكراً لما ورد في مذكرات أبيه إلى أن تقع يده على القارورة . 
مافيا السيطرة علي المقابر .. نموذج مقابر البساتين 
ينص القانون علي أنّ المقابر  لحفظ رفات الموتى بعد دفنهم، وينبني على ذلك أنها لا تفقد صفتها العامة بمجرد إبطال الدفن فيها، ما دامت قد خصصت للدفن وأعدت لهذا الغرض، ومن ثم فلا يجوز تملكها بوضع اليد عليها إلا بعد زوال تخصصها لها أعدت له واندثار معلمها وآثاره " ".
رغم ذلك هنا عدد من سماسرة المقابر يتحكمون في بيعها وشرائها مما يرفع ثمنها، فضلًا عن كونها عملية ربحية تتم من المالك إلى السماسرة ثم المشترى وفى كل مرحلة يرفع كل منهم السعر لتحقيق مكسبه مما يرفع السعر على المشترى النهائي . 
لا أعرف لماذا تصمت الحكومة والجهات المعنية علي ظاهرة استغلال المقابر واعتبارها وسيلة استرزاق حتي وصل الأمر لحالة من البلطجة أو مجمعات بلطجة نظامية  تحكمها أعراف وتقاليد ذاتية داخل الدولة، كما حدث في المكسيك ، أحسست بذلك الأمر  وانا في مقابر الأسرة في البساتين مساحات واسعة تسكنها أسر فقيرة بعضهم علي هامش المجتمع يعيشون علي الربح القادم إليهم من تجارة  الموت أو تجارة ما بعد الموت الدفن وطقوسه الدينية المعتبرة شرعًا تحول  فجأة من حماة لتراب الماس إلي تجار رفات وعظام العباد بل وهناك اتاوة تدفع في  المكان دخولًا وخروجًا. 
حاولت منذ  فترة الرجوع لبعض المصادر  لمعرفة  معلومات عن  الظاهرة وابعادها  فوجدتني وانا اطالع كتاب نزيه الأيوبي عن "الإسلام السياسي" ووجد أنه رغم أن بناء البيوت في المقابر نذير شؤم رمزيا، وهناك فتاوي تحرم الأمر واستغلاله، فإنّ هذه الممارسة واسعة الانتشار بسبب الأوضاع الاقتصادية وغلاء السكن والإيجارات، منذ سبعينيات القرن الماضي.
لا أعلم لماذا لا تلتفت الدولة لهذه الظاهرة وخاصة مع وجود تجارة إجرامية موازية لهذه الحياة ومنها تجارة أعضاء ومخدرات ودعارة وتسول وما خفي كان أعظم، ففكرة محاربة الإرهاب وجغرافيا التطرف تبدا من هذه المناطق العشوائية
حماية أملاك المصريين أحياء واموات مهمة الدولة ، من أجل  الحد من جغرافيا الإرهاب وسيسيولوجيا التطرف والبلطجة في  مجتمعاتنا التي تتجه نحو الرقي الحضاري والعمراني . 
و اقترح أن يكون لعالم  "الـتُربية" إدارة تتبع كل محافظة مهمتها طقوس الجنائز بأجر رمزي وفق قانون وأعراف  متبعة من كل عائلة يحدث عندها وفاة لأن عالم التُربية فاق كل حدود التصورات الممكنة.