رئيس مجلس الإدارة
د. رائد العزاوي

عبدالحفيظ محبوب يكتب: إنها الجغرافية السياسية.. هناك قوى فاعلة ستظهر بما فيها السعودية

نشر
الأمصار

تمت إزاحة بوش الأب بسبب الاقتصاد عام 1992، وانتخب بيل كلينتون، اليوم هناك حقائق كثيرة لعالم ما بعد الليبرالية الجديدة، عالم تكون فيه السياسة ذات أهمية لمعالجة الأزمات الاقتصادية، في عالم ما بعد أمريكا أو ما بعد القرن الأمريكي، وستظهر قوى إقليمية جديدة، بما في ذلك الصين وروسيا والسعودية، التي ستشكل الاقتصاد العالمي بطرق جديدة، ولن تستمر أيضا الصين بيت العالم الصناعي كما كانت من قبل، وكان الهدف الأسمى في أن يكون الشراء بأرخص سعر ممكن، فبايدن خصص مبلغ قيمته 1.2 تريليون دولار لبناء بنية تحتية، أي عصر الليبرالية في طوره للتلاشي، خصوصا بعد حدوث اضطرابات في سلاسل الإمدادات التي حدثت زمن كوفيد 19.

 ما يعني أن اضطراب سلاسل الإمدادات كانت بداية تغيير أساسي طويل الأجل، تشير على العودة مرة أخرى إلى الأقلمة، على حساب الشركات متعددة الجنسيات التي ارتبطت بالديمقراطية الليبرالية، والتي كانت بمثابة حكومة العالم الحقيقي التي ارتبطت بالقطب الأوحد، خصوصا بعد ظهور شركات وطنية كبرى قادرة على تحقيق استدامة رأسمالية السوق، ولم تعد الأسواق مثالية ومفتوحة كما كانت من قبل التي ارتبطت بالهيمنة الأمريكية باعتبارها القطب الأوحد، رغم استمرار أهمية العولمة ولكن وفق رؤية جديدة تتوافق مع تعدد الأقطاب التي تركز على التعاون، رغم بعض الجوانب السلبية على المدى القصير مثل التضخم، والانتقال من اقتصاد شديد العولمة تسبب في تدهور البيئة، وانتهاكات حقوق العمل، وزيادة عدم المساواة، مما جعله اقتصاد غير مستدام.

 هذا الواقع يفرض على الديمقراطية الليبرالية التحول إلى اقتصاد يكون فيه الإنتاج والاستهلاك أكثر ارتباطا بالجغرافيا، التي قلصت من أهمية الناتو بقايا الحرب الباردة الذي خرج منه الرئيس ترمب واستبدله بأمريكا أولا، لكن أمريكا بايدن تصر على القطبية الآحادية، واتجهت أمريكا نحو تشكيل تحالف بديل عنه بين أمريكا وبريطانيا وأستراليا لوقف النفوذ الصيني عبر مشروع الطريق والحزام.

 ما يعني أن أمريكا ما تزال تصر على القطبية الآحادية وسيادة العالم، وتدافع عنها، فيما الصين وروسيا يطالبان بالتعددية القطبية، ما جعل بوتين يتهم أمريكا في أحد خطاباته قبل 15 سنة بالخبث والسعي لاستحداث عالم آحادي القطب، بل اعتبر أن النظام الليبرالي العالمي الذي تقوده أميركا لا يهم روسيا، مما تسبب في صدامات في أوكرانيا وتايوان.

بدأ الغرب في زمن الحرب الباردة بمواجهة الاتحاد السوفيتي من خلال الثورة الخمينية في جنوبه على غرار مواجهة بريطانيا الدولة العثمانية قبل الحرب العالمية الأولى بالقومية العربية، ثم تنبت دعم الإخوان المسلمين، وجعلهم ورقة وعصا غليظة لضمان بقاء الدول العربية في المحور الغربي.

 لكن الاتحاد السوفيتي رد على استقدام ولاية الفقيه إلى إيران باحتلال أفغانستان في نفس السنة 1979، أيضا واجهت أمريكا الاتحاد السوفيتي بتنظيمات جهادية تسببت في انهيار الاتحاد السوفيتي في أفغانستان أدى إلى تفككه نتيجة التكاليف العالية التي أنفقها الاتحاد السوفيتي على الحرب في أفغانستان، وهو ما جعل أمريكا تهرب هي أيضا من أفغانستان حتى لا تتحمل تكاليف عالية تساهم في انهيارها كما انهار الاتحاد السوفيتي.

 ما جعل السعودية تستوعب الدرس وتنوع شراكاتها الدولية دون الاعتماد على شريك آحادي، ولكن مع أهمية القضاء على المشاريع الأيديولوجية التي صدرها الغرب إلى المنطقة، واستبدالها بمشروع اقتصادي المتمثل في رؤية المملكة 2030 الذي يلتقي مع المشروع الصيني العملاق الحزام والطريق، وستكون السعودية منفتحة على جميع دول الشرق الأوسط حتى إيران وتركيا من خلال إعطاء أولوية للمحركات الاقتصادية المتمثلة في الموقع اللوجستي، وتفعيل الثروات المحلية من معادن وثروات، وتفعيل السياحة المعطلة في الفترة الماضية لتحويل المنطقة إلى شرق أوسط أوربي يرتكز على تحقيق التنمية المستدامة التي ترسخ السلام بديلا عن التنافس الإقليمي والصراع على الثروات والممرات المائية، ورسم ملامح مستقبل أخضر، حتى تتحول المنطقة إلى الالتزام بالريادة العالمية عبر الابتكار والاستدامة.

لم يستوعب رئيس أوكرانيا زيلينسكي التحولات الجيوسياسية، فوقف على منبر مؤتمر ميونخ بجنوب ألمانيا، ليتهم الغرب باللجوء إلى سياسة المهادنة مع موسكو، ودعاها إلى التخلي عن هذه السياسة وتبني سياسة أخرى تضمن الأمن والسلام، حتى أمريكا التي لا زالت تصر على القطبية الأحادية اعتبرت أن أوكرانيا ليست حلفا في الناتو ولا يحق لدول الناتو الدفاع عنها عسكريا لكن يمكن تقديم لها السلاح ووضع العقوبات على روسيا بجانب الدبلوماسية، لكن زيلينسكي يذكر الناتو بالضمانات التي قدمتها أمريكا وروسيا وبريطانيا، عندما تخلصت أوكرانيا من النووي عام 1994، وأن سياسة الاسترضاء أو المهادنة لا تتوافق مع ما التزمت به دول الناتو.

لكن غاب عن مؤتمر الأمن روسيا والصين، الذي تحول المؤتمر من مكان للحوار إلى مكان للحشد ضد روسيا الغائبة للمرة الأولى، رغم ذلك اعتبر الرئيس الأوكراني تهديداتهم مجرد إشارات فارغة ما لم تقترن بأفعال، ويذكرهم بتقاعس العالم في الدفاع عن بولندا عندما غزاها هتلر وهو ما شجعه على التقدم أكثر والتسبب بتفجير الحرب العالمية الثانية، وانتقد أيضا الرئيس الأوكراني رفض السماح لبلاده بالانضمام إلى حلف الأطلسي، واعتبر أن هندسة أمن العالم ضعيفة، وانتقد ألمانيا تحديدا لرفضها إرسال أسلحة إلى كييف بسبب تاريخها، بل ركزت وزير الخارجية الألمانية بيربوك عن دروس التاريخ التي لا تسمح لألمانيا بتسليح دول إبان النزاعات، قبل أن تؤكد أن برلين تبذل قصارى جهدها للتركيز على الدبلوماسية لحل التصعيد مع روسيا، كما فعله بايدن عندما أتى إلى البيت الأبيض وأكد أنه سينحو نحو الدبلوماسية مع إيران، وبعد 24 ساعة من انتهاء مؤتمر ميونيخ للأمن ومغادرة الزعماء كل إلى بلده حتى بدأت روسيا التصعيد بشكل كبير، فأعلنت الاعتراف بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين، وتبعت الخطوة بإرسال جنودها كقوات حفظ سلام إلى الإقليمين لتتبعها ببدء غزو أوكراينا.

كان يشجع الغرب الرئيس الأوكراني على التمادي ضد روسيا، وبسبب أدائه انخفضت شعبيته من 70 في المائة إلى 18 في المائة، وحضور الناتو على حدود روسيا تهديد أمني، والقيام بعملية مناورة في البحر السود دون إخطار روسيا قبل أربعة أشهر أدى إلى استدعاء استنفار روسيا ووضع 100 ألف جندي على حدود أوكرانيا، حتى أن الصين اتهمت أمريكا بصب الزيت على النار.

نظام الأمن الإقليمي يسمح بأن تكون هناك دول محايدة، وهو ما أكده المجلس الأوربي للعلاقات الخارجية وهو مركز أبحاث مرموق يتخذ من برلين مقرا له في تقريره أكد أن توسيع ناتو لأي دول باستثناء فنلندا والسويد ليس مطروحا بتاتا، وهذا قد يكون صحيحا أيضا بالنسبة لعضوية الاتحاد الأوربي.