في خطوة وصفت بأنها من أكثر التحركات حساسية في مسار الأزمة الأوكرانية، اتخذت الولايات المتحدة قرارًا بفتح مسار منفصل في مناقشات التسوية، مُخصّص بالكامل للقضايا المرتبطة مباشرة بأوروبا.
قرار واشنطن لم يأتِ من فراغ؛ لكنه نتاج أشهر من المفاوضات المكثفة بين مسؤولين أمريكيين وأوروبيين وأوكرانيين، في ظل محاولات حثيثة لإعادة ضبط اتجاهات الحرب وتحديد مستقبل الشرق الأوروبي.

وبحسب تقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، ونقلًا عن مصادر رفيعة المستوى، فإن وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو قدم ضمانات سرية للشركاء الأوروبيين تؤكد أن الاتحاد الأوروبي لن يكون طرفًا مباشرًا في بعض محاور المفاوضات الدائرة بشأن مستقبل أوكرانيا. وهو تطور يحمل دلالات كبرى حول طريقة إدارة إدارة ترامب الثانية للأزمة الأوكرانية، ورغبتها الواضحة في وضع حدود فاصلة بين ما يخص واشنطن وما يخص أوروبا.
تشير المصادر إلى أن روبيو أكد للمسؤولين الأوروبيين، خلال محادثات غير معلنة، أن جميع الملفات التي تمس الأمن الأوروبي بشكل مباشر ستخضع لمسار مستقل، ولن تُناقش ضمن الإطار الأوسع للاتفاق الأمريكي–الروسي المحتمل.
وجاء ذلك بعد جولة مفاوضات مكثفة في جنيف، شهدت نقاشات شائكة بين الوفود الأمريكية والأوروبية والأوكرانية، في محاولة لتقريب وجهات النظر المتباعدة.
وبحسب ما نقلته الصحيفة، فإن روبيو أكّد للأوروبيين أن الإدارة الأمريكية ترغب في طمأنتهم عبر إعطائهم دورًا أكبر وأوضح في تحديد مستقبل الأمن الأوروبي، بعيدًا عن أي تنازلات قد تُقدَّم ضمن إطار الصفقة الأمريكية المطروحة لوقف الحرب.
يأتي إعلان المسار المنفصل في وقت تتعرض فيه الإدارة الأمريكية لانتقادات متزايدة إثر طرح وثيقة سلام أولية وُصفت بأنها تميل إلى تلبية مطالب الكرملين بدرجة لافتة، خصوصًا فيما يتعلق بمسألة الأراضي الخاضعة للسيطرة الروسية.
وعلى الرغم من تعديل الوثيقة بعد مشاورات مع كييف، إلا أنها ما زالت تُثير قلقًا لدى الشركاء الأوروبيين، الذين يخشون أن تتخذ واشنطن خطوات منفردة لحسم الأزمة بدون تنسيق كامل مع الاتحاد الأوروبي.

وبعد المحادثات في جنيف، أعلن روبيو رسميًا تخصيص مسار مستقل للقضايا الأوروبية، كجزء من محاولة تهدئة الحلفاء وإعادة بناء الثقة التي تعرضت لاهتزاز ملحوظ خلال الأسابيع الأخيرة.
الوثيقة الأمريكية التي طُرحت لإنهاء الحرب تضمنت بنودًا وُصفت بأنها شديدة الحساسية، إذ نصت النسخة الأولى منها على تنازل كييف عن منطقتي دونيتسك ولوغانسك لروسيا. وقد أثار ذلك موجة غضب واسعة داخل أوكرانيا، حيث اعتبر كثيرون هذا المقترح بمثابة استسلام مباشر.
ورغم تعديلات أُجريت على الوثيقة، إلا أن الخطوط العريضة بقيت تُعطي روسيا مساحة تفاوضية واسعة، وهو ما تراه أوروبا تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، خاصة وأن الضغوط الأمريكية على كييف للقبول بالاتفاق تبدو – وفق الأوروبيين – أعلى من أي وقت مضى.
ومن المنتظر أن يتوجه المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف إلى موسكو الأسبوع المقبل لاستكمال جولة جديدة من المشاورات حول الخطة.
وفي خطوة بدت كأنها محاولة لفرض شروط ميدانية قبل الدخول في مرحلة التفاوض الجاد، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن موسكو مستعدة لوقف العمليات العسكرية فور انسحاب القوات الأوكرانية من الأراضي التي تطالب بها روسيا.

وقال بوتين في مؤتمر صحفي في بيشكيك:
"إذا غادرت القوات الأوكرانية الأراضي المحتلة، سنوقف القتال. وإذا لم تغادر، سنطردها بالقوة العسكرية".
لكن الغموض ظل يلف تصريحات بوتين، خصوصًا أنه لم يحدد ما إذا كان يشير فقط إلى دونيتسك ولوغانسك، أم يشمل أيضًا خيرسون وزابوريجيا، وهما المنطقتان اللتان أعلنت موسكو ضمهما عام 2022 دون السيطرة الكاملة عليهما ميدانيًا.
في المقابل، كان الرد الأوكراني حاسمًا. إذ أكد أندري يرماك، مدير مكتب الرئاسة الأوكرانية، أن كييف لن تقبل أبدًا التخلي عن أي جزء من أراضيها. وفي مقابلة مع صحيفة ذي أتلانتيك الأمريكية، قال يرماك:
"ما دام زيلينسكي رئيسًا، لا ينبغي لأحد أن يتوقع منا التنازل عن أي أراض. هذا الأمر غير قابل للمساومة".
وأضاف أن ما يمكن مناقشته حاليًا هو تحديد "خط التماس" بين القوات، والذي يمتد لمسافة تتجاوز 1100 كيلومتر. وهو تصريح يعكس إدراك كييف لواقع ميداني تزداد تعقيداته يومًا بعد يوم، لكنها في الوقت ذاته تُصر على عدم تقديم تنازلات سياسية.
رغم الضمانات التي قدمتها واشنطن، إلا أن العواصم الأوروبية ما زالت تشعر بقلق بالغ. فالمسار المنفصل الذي تحدث عنه روبيو قد يُنظر إليه على أنه محاولة أمريكية لاحتواء القلق الأوروبي دون منحه تأثيرًا حقيقيًا في المفاوضات الكبرى مع روسيا.
الأوروبيون يخشون أن تتوصل واشنطن وموسكو إلى تفاهمات لا تُراعي بالكامل المخاوف القارية، خاصة في ظل تهديدات بوتين الأخيرة حول اتخاذ إجراءات اقتصادية ضد الاتحاد الأوروبي إذا ما تمت مصادرة الأصول الروسية المجمدة داخل التكتل.
الوضع الحالي يجعل الأزمة الأوكرانية أمام مشهد تفاوضي غير مسبوق:
كل ذلك يجعل الملف أكثر تشابكًا، ويجعل المسار المنفصل مكمن قلق بدلًا من كونه مصدر طمأنينة، خصوصًا في ظل غياب توافق حقيقي بين الأطراف حول الحدود، والسيادة، وشكل الاتفاق النهائي.
المشهد السياسي يدفع الخبراء لطرح عدة سيناريوهات:
إجمالًا، تبدو الولايات المتحدة وكأنها تحاول إعادة هندسة الملف الأوكراني بطريقة تحفظ مصالحها الجيوسياسية، بينما تسعى في الوقت ذاته للحفاظ على توازن معقد مع الحلفاء الأوروبيين.

أما روسيا، فتستغل اللحظة لفرض وقائع ميدانية وسياسية جديدة، فيما تجد أوكرانيا نفسها أمام مسار تفاوضي شديد الحساسية وخيارات أقل من أي وقت مضى.