تعيش تونس على وقع جدل واسع بعد إعلان الحكومة نيتها تنفيذ زيادات في الأجور دون مفاوضات مع الاتحاد العام التونسي للشغل، وهو ما اعتُبر من قبل النقابيين والخبراء “خطوة غير مسبوقة” في تاريخ البلاد الحديث.
القرار جاء ضمن مشروع قانون المالية لسنة 2026، الذي أقرّ زيادات مرتقبة في أجور الموظفين والمتقاعدين على مدى ثلاث سنوات متتالية (2026 و2027 و2028)، على أن تحدد قيمتها لاحقًا بمرسوم حكومي بعد المصادقة على القانون ودخوله حيّز التنفيذ في يناير المقبل.
منذ سبعينيات القرن الماضي، اعتادت تونس أن تحدد نسب الزيادات في الأجور عبر مفاوضات ثلاثية بين الحكومة، ومنظمة الأعراف (اتحاد الصناعة والتجارة)، واتحاد الشغل باعتباره الممثل الرئيسي للعمال.
لكن الحكومة الحالية قررت أن تسلك طريقًا مختلفًا تمامًا، إذ أدرجت الزيادة في الموازنة مباشرة دون أي مشاورات، مبررة ذلك بالرغبة في تسريع الإصلاحات المالية وضبط النفقات العامة، في ظل ضغوط اقتصادية متزايدة وتراجع تصنيف البلاد الائتماني.
ويرى مراقبون أن هذه الخطوة تعكس توجهًا جديدًا لدى السلطة التنفيذية في التحكم المباشر في ملف الأجور دون إشراك الشركاء الاجتماعيين، بما يُتيح لها مرونة أكبر في إدارة الموارد المالية وتلبية شروط المؤسسات الدولية المقرضة، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي.
ردّ الاتحاد العام التونسي للشغل بقوة على الخطوة الحكومية، معتبرًا أنها تمثل تجاوزًا خطيرًا للقوانين والاتفاقيات التي تنظم العلاقات الشغلية في البلاد.
وقال سامي الطاهري، الأمين العام المساعد للاتحاد، إن إدراج زيادات في الأجور دون مفاوضات يشكل “مخالفة صريحة لقانون الشغل” الذي ينص على وجوب التفاوض الجماعي في كل ما يتعلق بتحسين الأجور أو ظروف العمل.
وأضاف الطاهري أن هذا القرار “يفتح الباب أمام تهميش دور النقابات” وتحويل العلاقة بين الدولة والعمال إلى علاقة أحادية الجانب، مؤكدًا أن أي زيادة تُمنح دون حوار تُعتبر منّة من الحكومة وليست حقًا مكتسبًا.
وأشار أيضًا إلى أن مشروع قانون المالية الجديد يعاني “فراغًا ماليًا خطيرًا” يُقدّر بـ11 مليار دينار تونسي، متسائلًا عن كيفية تمويل هذه الزيادات في ظل أزمة الموارد وتراجع مداخيل الدولة.
الخبير الاقتصادي معز المانسي أوضح في تصريحات لوسائل إعلام محلية أن ما يحدث اليوم هو “سابقة في تاريخ تونس”، إذ لم يحدث منذ أكثر من خمسين عامًا أن أُقرت زيادة في الأجور دون مفاوضات جماعية.
وأضاف أن الحكومة ربما تسعى من وراء هذه الخطوة إلى إضعاف تأثير اتحاد الشغل بعد تزايد الانتقادات الموجهة إليه خلال السنوات الأخيرة، معتبرًا أن القرار يحمل في طيّاته بعدًا سياسيًا أكثر من كونه إجراءً اقتصاديًا.
وأشار المانسي إلى أن الزيادة، رغم أهميتها بالنسبة للعاملين، لن تُصرف فعليًا إلا مع بداية يناير 2026، ما يجعلها مرتبطة بالوضع المالي المستقبلي وليس بالقدرات الحالية للدولة.
كما حذر من أن مثل هذه الخطوات قد تُثير احتجاجات اجتماعية إذا لم تكن مصحوبة بإصلاحات هيكلية حقيقية تُعالج التضخم وغلاء المعيشة.
من جهته، اعتبر الباحث في الشأن الاجتماعي علي القلعي أن الحكومة تسعى من خلال هذه الخطوة إلى تحجيم دور الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي ظل لعقود طرفًا أساسيًا في تحديد السياسات الاجتماعية والاقتصادية.
وأضاف القلعي أن استبعاد الاتحاد من المفاوضات يُعد “فصلًا جديدًا من الصراع بين السلطة والهياكل النقابية”، مشيرًا إلى أن هذا الصراع بدأ يطفو على السطح منذ سنوات مع تصاعد التوتر بين الطرفين حول ملفات الخصخصة والوظيفة العمومية.
وأوضح القلعي أن اتحاد الشغل الذي تأسس في الأربعينيات على يد المناضل فرحات حشاد، يمثل أحد أقدم وأقوى النقابات في المنطقة العربية، مشيرًا إلى أن تهميشه قد يؤدي إلى تفكك التوازن الاجتماعي في البلاد ويخلق حالة من الاحتقان بين العمال والسلطة.
تأتي هذه الخطوة بينما يناقش البرلمان التونسي مشروع قانون المالية الجديد لعام 2026، والذي تُقدّر قيمته بحوالي 63 مليار دينار تونسي، أي ما يعادل نحو 20.4 مليار دولار.
وتواجه الحكومة تحديًا كبيرًا في تمويل العجز، خاصة في ظل غياب اتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد، إلى جانب ارتفاع فاتورة الدعم وتراجع الإيرادات الضريبية.
ويرى مراقبون أن الحكومة قد تلجأ إلى الاقتراض الداخلي أو الخارجي لتغطية النفقات، وهو ما قد يزيد من حجم الدين العام الذي تجاوز بالفعل 80% من الناتج المحلي الإجمالي.