تشهد فرنسا واحدة من أكثر اللحظات السياسية تعقيدًا في تاريخها الحديث، مع ترقب جلسة التصويت المرتقبة في البرلمان يوم الإثنين، والتي قد تطيح بحكومة فرانسوا بايرو.
الأزمة لا تتعلق فقط بمصير رئيس الوزراء، بل بمدى قدرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على إيجاد بديل قادر على إدارة دفة البلاد وسط انقسامات حادة، وضغوط اقتصادية، وتصاعد الغضب الشعبي.
منذ قرار ماكرون حل الجمعية الوطنية في يونيو الماضي عقب اكتساح أقصى اليمين للانتخابات الأوروبية، دخلت فرنسا في حالة من عدم الاستقرار السياسي غير المسبوق منذ تأسيس الجمهورية الخامسة عام 1958.
الانتخابات التشريعية المبكرة أفرزت مشهدًا معقدًا بثلاث كتل رئيسية: تحالف يساري، تكتل يمين الوسط، وأقصى اليمين، دون أن يتمكن أي منها من تحقيق أغلبية مريحة تسمح بتشكيل حكومة قوية.
هذا الانقسام جعل حكومة بايرو هشّة منذ اللحظة الأولى، وهو ما تجلى في التصويت المرتقب على الثقة المرتبط بميزانية عام 2026، التي تضمنت خططًا لتقليص النفقات بمقدار 44 مليار دولار، وإلغاء يومي عطلة رسمية لتقليص الدين العام الذي بلغ 114% من الناتج المحلي الإجمالي.
المؤشرات كلها تصب في اتجاه واحد: سقوط الحكومة بات شبه مؤكد، خاصة بعد إعلان اليسار وأقصى اليمين التصويت ضد مشروع الميزانية.
وفي حال تحقق ذلك، سيجد ماكرون نفسه أمام اختبار صعب: هل يلجأ إلى حل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة؟ أم يكتفي بتعيين رئيس وزراء جديد قادر على التعايش مع الخريطة البرلمانية الحالية؟
المشهد الفرنسي اليوم يعيد فتح النقاش حول صلاحيات الرئيس وقدرته على المناورة. بعض الأصوات، خاصة من اليسار المتشدد، تطالب باستقالة ماكرون نفسه، فيما يطالب آخرون بانتخابات رئاسية مبكرة.
استطلاع للرأي أظهر أن 64% من الفرنسيين يرغبون في انتخابات رئاسية جديدة، لكن ماكرون أكد أنه سيكمل ولايته حتى 2027.
السيناريو الأكثر ترجيحًا هو بحث ماكرون عن رئيس وزراء جديد، ربما من خارج الحزب الاشتراكي، على أن يحظى بقبول من عدة أطراف، بدءًا من اليمين الوسط وحتى الاشتراكيين.
أسماء مثل وزيرة الاقتصاد إريك لومبار ورئيسة الجمعية الوطنية يائيل برون-بيفيه تُطرح كخيارات محتملة لتهدئة الأوضاع.
الأزمة السياسية تتزامن مع وضع اقتصادي حساس الدين العام الفرنسي في ارتفاع مستمر، والإصلاحات التي طرحها بايرو، خاصة إصلاح نظام التقاعد، أثارت جدلاً واسعًا.
الحزب الاشتراكي اقترح بديلاً يقوم على فرض ضريبة 2% على الثروات التي تتجاوز 100 مليون يورو، مع إلغاء بعض الإصلاحات السابقة.
لكن هذا الطرح يواجه معارضة من أحزاب اليمين والجمهوريين، ما يعمق الانقسامات. في المقابل، يواصل الشارع الفرنسي التعبير عن غضبه من السياسات الحكومية، وسط دعوات للتظاهر والإضراب يوم 10 سبتمبر بقيادة النقابات وحركات مثل "السترات الصفراء".
التصويت على الثقة ليس التحدي الوحيد أمام الحكومة الفرنسية، فهناك أيضًا ضغط متزايد من الشارع.
الدعوات لتظاهرات واسعة قد تجعل "الإثنين العاصف" أكثر من مجرد تصويت برلماني، بل لحظة فارقة في علاقة الفرنسيين بنظامهم السياسي.
المحللون يرون أن نجاح هذه التعبئة الشعبية سيضعف موقف ماكرون أكثر، ويفتح الباب أمام اليسار وأقصى اليمين لزيادة الضغط السياسي، وربما دفع البلاد نحو انتخابات عامة مبكرة.
الأزمة الحالية لا تتعلق فقط بميزانية أو بحكومة بايرو، بل تعكس أزمة ثقة أعمق. 90% من الفرنسيين، وفق استطلاع للرأي، يرون أن السياسيين فشلوا في معالجة مشاكل البلاد.
هذا الشعور يهدد بتقويض الاستقرار الديمقراطي، ويفتح الباب أمام مزيد من الشعبوية والاحتجاجات.
سواء سقطت حكومة بايرو أم صمدت بشكل مؤقت، فإن فرنسا مقبلة على مرحلة جديدة من عدم اليقين السياسي. ماكرون يحتاج إلى إيجاد معادلة جديدة تجمع بين استقرار الأسواق المالية وتلبية مطالب الشارع.
وربما يكون الحل، كما يرى بعض المحللين، في شخصية توافقية تحظى بدعم طيف واسع من الأحزاب، وتعمل على تهدئة الأوضاع حتى الانتخابات المقبلة في 2027.
لكن حتى ذلك الحين، سيظل المشهد الفرنسي مفتوحًا على كل الاحتمالات: انتخابات جديدة، حكومة تكنوقراط، أو حتى صدام سياسي أوسع قد يغير قواعد اللعبة تمامًا.