مجلس التحرير: مجموعة صحفيين عرب
الموقع قدم أوراق اعتماده
الى نقابة الصحفيين العراقيين

مخاطر بيئية وصحية.. الـCIA تفقد جهازاً نووياً فوق الهيمالايا منذ 60 عاماً

نشر
الأمصار

في واحدة من أكثر مغامرات الحرب الباردة خطورة وغموضاً، فقدت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) جهازاً نووياً صغيراً لكنه شديد الخطورة فوق قمة جبل ناندا ديفي في قلب جبال الهيمالايا، خلال عام 1965، في ذروة التوتر النووي بين الولايات المتحدة والصين.

وبحسب تقرير نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، اطلعت عليه ، كانت المهمة جزءاً من سلسلة عمليات استخباراتية سرية أطلقتها الولايات المتحدة لمراقبة التجارب الصاروخية الصينية عبر نصب محطة تنصت نووية. وشارك في المهمة فريق من المتسلقين الأمريكيين، اختيروا بعناية فائقة لتولي صعود الجبل الوعر، الذي يبلغ ارتفاعه نحو 7 آلاف متر، في ظروف مناخية قاسية وصعبة للغاية.

الهدف الرئيسي للفريق لم يكن مجرد التسلق، بل نقل جهاز نووي صغير الحجم، يزن حوالي 50 رطلاً، يحتوي على مادة البلوتونيوم المكافئة لثلث كمية البلوتونيوم التي استخدمت في قنبلة ناغازاكي. 

هذا الجهاز لم يكن أكبر من أن يُحمَل على الأكتاف، لكنه كان يحمل في طياته مخاطر كارثية محتملة لأي تسرب أو خطأ في التعامل معه.

لحظة القرار المصيري

في اليوم الحاسم للقيام بالتصعيد الأخير نحو القمة، واجه الفريق عاصفة ثلجية عنيفة ورياحاً شديدة، مع رؤية شبه معدومة بسبب كثافة الثلوج. 

خلال هذه اللحظات الحرجة، كان القبطان الهندي إم. إس. كوهلي يراقب الفريق من معسكر القاعدة، متوتراً للغاية خوفاً على حياة المتسلقين.

وعندما انقطع الاتصال مع الفريق، اتخذ المسؤولون الأمريكيون والهنديون قراراً صعباً: ترك الجهاز النووي في مكانه، حفاظاً على أرواح الفريق. 

وتم إخفاء الجهاز داخل تجويف جليدي قرب المعسكر الرابع، وربطه بالحبال والأوتاد لضمان ثباته، قبل أن ينسحب المتسلقون بسرعة نحو أسفل الجبل.

ما لم يكن يتوقعه أحد أن هذا القرار سيصبح لغزاً نووياً قائماً منذ أكثر من ستة عقود، ما بين التضاريس الوعرة والأنهار الجليدية العميقة، التي ابتلعت الجهاز مع مرور الوقت.

البحث عن الجهاز المفقود

في موسم التسلق التالي، أعادت فرق مشتركة من الأمريكيين والهنود محاولة العثور على الجهاز، لكن كل الجهود باءت بالفشل. وخلص الخبراء إلى أن انهياراً جليدياً قد ابتلع الجهاز، ودفع به نحو أعماق نهر جليدي لا يمكن الوصول إليه بسهولة، فيما تشير تقديرات علمية إلى أن حرارة البلوتونيوم لا تزال تحافظ على ذوبان الجليد المحيط بالجهاز، ما يزيد من تعقيد عملية العثور عليه.

مخاطر بيئية وصحية

تكمن خطورة هذا الجهاز النووي في موقعه الجغرافي الاستراتيجي؛ فالأنهار الجليدية المحيطة بجبل ناندا ديفي تُغذي منابع نهر الغانغ في الهند، النهر المقدس الذي يعتمد عليه مئات الملايين من السكان لري الأراضي والزراعة والحياة اليومية. 

وخوفاً من التأثيرات الإشعاعية المحتملة، تحفظت السلطات الأمريكية على المعلومات الرسمية، واستخدمت مصطلح «حادثة الهيمالايا» فقط في الوثائق الرسمية، دون تقديم أي تفاصيل واضحة.

وبحسب خبراء نوويين، فإن الجهاز لا ينفجر تلقائياً، لكنه يحتوي على مادة بلوتونيوم شديدة السمية، قادرة على التسبب بأمراض سرطانية إذا تسربت إلى البيئة أو وقعت في أيدي أشخاص غير مختصين. 

والأسوأ من ذلك هو احتمال أن يتم تحويله إلى ما يُعرف بـ«القنبلة القذرة»، أي سلاح إشعاعي بدائي يمكن أن يتسبب بكارثة بيئية وإنسانية.

مع تسارع ذوبان الأنهار الجليدية نتيجة التغير المناخي، يزداد القلق بين العلماء والسكان المحليين حول إمكانية ظهور الجهاز على السطح، وكشفه للعالم بعد ستين عاماً من الإخفاء، ليصبح عبئاً نووياً يهدد حياة الملايين.

الصدمة السياسية

عند انكشاف تفاصيل الحادثة في أواخر السبعينيات، أثار ذلك عاصفة سياسية في الهند، حيث شهدت الشوارع تظاهرات واسعة، وجرى توجيه استجوابات برلمانية، مع اتهامات مباشرة للولايات المتحدة بمحاولة تلويث المياه المقدسة للنهر بشكل سري.

على الصعيد الدبلوماسي، اختارت إدارة الرئيس الأمريكي جيمي كارتر ورئيس الوزراء الهندي مورارجي ديساي، في تلك الفترة، طي الملف سياسياً، خوفاً من اندلاع أزمة دبلوماسية كبرى بين البلدين.

ذكريات قاتلة

بعض المتسلقين الذين شاركوا في المهمة عاشوا شعور الذنب طيلة حياتهم. جيم مكارثي، آخر الأمريكيين الأحياء من الفريق، تحدث في التسعين من عمره قائلاً: «لا يمكنك ترك البلوتونيوم قرب نهر يغذي الملايين.. كان ذلك جنوناً».

أما القبطان الهندي إم. إس. كوهلي، فقد اعترف قبل وفاته بندم عميق: «خُدعنا… الخطة كانت متهورة، ونحن علقنا في وسطها».

ومع مرور ستين عاماً على تلك الحادثة، لا يزال مصير الجهاز النووي مجهولاً: هل هو مدفون في قلب النهر الجليدي؟ هل تحطم وتسرّبت مواده؟ أم ما زال صامداً في مكانه، يذيب الجليد من حوله ببطء، في انتظار أن يظهر للعالم؟

تساؤلات بلا إجابة

لا تزال الأسئلة تطرح نفسها بين سكان الهيمالايا وعشاق التاريخ العسكري: إذا استطاع الإنسان الوصول إلى القمر، فلماذا لم يتمكن أحد من العثور على هذا الجهاز النووي حتى اليوم؟ وما هو مصير النهر الذي يعتمد عليه الملايين إذا تم العثور عليه أو تحرك؟

هذه القصة لا تزال واحدة من أكثر المغامرات النووية غموضاً في تاريخ الاستخبارات الأمريكية، وتكشف عن مزيج من الطموح العسكري، والمخاطر البيئية، والسياسة الدبلوماسية، في واحدة من أعلى القمم وأكثرها وعورة على كوكب الأرض.