مجلس التحرير: مجموعة صحفيين عرب
الموقع قدم أوراق اعتماده
الى نقابة الصحفيين العراقيين

بالفيديو.. الأمصار تكشف أسرار كنيسه القديس بولس في مدينة فرانكفورت

نشر
د/رائد العزاوي مدير
د/رائد العزاوي مدير مركز الأمصار للدراسات السياسية والاقتصاد

كنيسة القديس بولس في فرانكفورت.. لماذا تعتبر مهداً ورمزاً للديمقراطية في ألمانيا؟

كنيسة القديس بولس (Paulskirche) في مدينة فرانكفورت هي واحدة من أبرز وأشهر المباني في التاريخ الألماني الحديث. بُنيت في البداية كمكان للعبادة البروتستانتية، ولكن دورها تجاوز الإطار الديني وأصبحت رمزاً سياسياً وفكرياً ارتبط بولادة الفكرة الديمقراطية في ألمانيا. 

بناء الكنيسة والطراز المعماري

بُنيت كنيسة القديس بولس على أنقاض كنيسة قديمة وهي كنيسة الفرنسيسكان، جاء المشروع في سياق توسّع مدينة فرانكفورت ونموها السكاني، والحاجة إلى كنيسة بروتستانتية كبيرة تستوعب أبناء المدينة. واحتاج المخطط والعمران لعقود قبل اكتمالها.

وصمم مبنى كنيسة القديس بولس على شكل بيضاوي أو إهليجي من الحجر الرملي الأحمر في ساحة بولسبلاتز بوسط فرانكفورت. بُنيَت وكرّست ككنيسة إنجيلية ولوثرية في أوائل القرن التاسع عشر في عام 1833. 

استغرق البناء فترة طويلة نسبياً (1789–1833)، وهو ما يعكس الاضطرابات السياسية والاقتصادية التي شهدتها أوروبا آنذاك، خصوصاً الحروب النابليونية. هذا الامتداد الزمني ترك أثره الواضح على تصميم الكنيسة، التي لم تكن نتاج رؤية مهندس واحد، بل حصيلة تعديلات وتغييرات متعاقبة.

سُمّيت الكنيسة باسم القديس بولس، أحد أبرز رموز التحول والتبشير في المسيحية. ويرى بعض الباحثين أن الاسم اكتسب لاحقاً دلالة رمزية غير مقصودة، إذ تحوّل المكان نفسه من فضاء ديني إلى منبر للأفكار الجديدة والإصلاح السياسي، تماماً كما ارتبط اسم بولس تاريخياً بفكرة التحول الفكري.

أسرار كنيسه القديس بولس في مدينة فرانكفورت 

لا تكمن أسرار كنيسة القديس بولس في فرانكفورت الحقيقية  في الغموض أو الخرافة، بل في التحولات العميقة التي شهدها هذا المبنى: من كنيسة دينية إلى برلمان، ومن أنقاض الحرب إلى رمز وطني للديمقراطية. 

الشكل الإهليجي أوالبيضاوي

يُعد الشكل المعماري لكنيسة القديس بولس أحد أهم مفاتيح فهم دورها التاريخي. فالكنيسة ليست مستطيلة على الطراز الكنسي التقليدي، بل بيضاوية، وهو تصميم نادر نسبياً في الكنائس الألمانية، حيث يخلق هذا الشكل إحساساً بالمساواة بين الحاضرين، حيث لا توجد زوايا حادة أو محاور تميّز فئة عن أخرى، كما يُحسّن الرؤية والصوت، ما جعلها مناسبة للاجتماعات العامة والخطابات السياسية.

يمكن اعتبار هذا التصميم «سراً وظيفياً»، إذ إن الكنيسة كانت مهيأة، دون قصد مباشر، لتتحول إلى قاعة برلمانية.

الزخرفة الداخلية

على عكس الكثير من الكنائس الأوروبية المزخرفة، اتسمت كنيسة القديس بولس ببساطة نسبية في الزخرفة الداخلية، وهو ما يتماشى مع الروح البروتستانتية. هذه البساطة سهلت لاحقاً إزالة الرموز الدينية مؤقتاً وتحويل الفضاء إلى مكان مدني دون صدام بصري أو رمزي حاد.

كنيسة تتحول إلى برلمان (1848–1849)

شهدت أوروبا في عام 1848 موجة من الثورات الليبرالية والقومية، وكان الألمان يسعون إلى توحيد الولايات الألمانية المتفرقة في دولة دستورية واحدة. في هذا السياق، اختيرت كنيسة القديس بولس مقراً لاجتماع أول جمعية وطنية ألمانية منتخبة.

تمت إزالة المذبح، ووُضعت منصة للرئاسة، ومقاعد للنواب، في خطوة تحمل دلالة عميقة: انتقال السيادة الرمزية من الدين إلى الشعب. هذا التحول يُعد من أهم «أسرار» الكنيسة، إذ لم يكن مجرد استخدام مؤقت، بل لحظة تأسيسية في الوعي السياسي الألماني.

خرجت من هذا المبنى مسودة دستور ليبرالي متقدم نسبياً لعصره، تضمن مبادئ مثل:

ورغم فشل تطبيق الدستور عملياً، فإن كثيراً من أفكاره انتقلت لاحقاً إلى الدساتير الألمانية اللاحقة، بما فيها الدستور الأساسي لجمهورية ألمانيا الاتحادية.

الحرب العالمية الثانية

تعرضت كنيسة القديس بولس لدمار شديد خلال القصف الجوي لمدينة فرانكفورت عام 1944. دُمّر السقف، واحترق الداخل، وفُقدت كثير من العناصر الأصلية من أثاث وزخارف ووثائق. هذا الدمار لم يكن مادياً فقط، بل مسَّ الذاكرة التاريخية للمكان، إذ اختفت شواهد مادية مباشرة على مرحلة 1848.

وبعد الحرب العالمية الثانية، اتُخذ قرار بإعادة بناء الكنيسة بسرعة، لكنها لم تُرمَّم على صورتها التاريخية الكاملة. جاء التصميم الداخلي الجديد بسيطاً وحديثاً نسبياً، في إشارة واعية إلى القطيعة مع الماضي النازي والتركيز على مستقبل ديمقراطي جديد. يمكن اعتبار هذا القرار أحد "أسرار" Paulskirche، حيث فُضِّلت الرمزية السياسية على الدقة التاريخية.

الأساطير والخرفات حول الكنيسة

ارتبطت الكنيسة بعدد من الروايات غير المثبتة، مثل وجود غرف سرية للمداولات السياسية أو وثائق مخفية تعود لنواب 1848. الدراسات الأرشيفية تشير إلى أن هذه الروايات لا تستند إلى أدلة مادية، لكنها تعكس المكانة الرمزية للمبنى في الوعي الشعبي.

تحولت كنيسة القديس بولس إلى "موقع ذاكرة" بالمعنى الأكاديمي، أي مكان تُسقط عليه الأمة سردياتها عن الماضي، سواء كانت دقيقة تاريخياً أو محمّلة بالرموز والمشاعر الوطنية.

حال كنيسة القديس بولس اليوم

لم تعد كنيسة القديس بولس كنيسة تقليدية تُقام فيها شعائر دينية منتظمة، بل تُستخدم اليوم كقاعة للفعاليات الرسمية، والمعارض، وتسليم الجوائز، والاحتفالات الوطنية المرتبطة بالديمقراطية وحقوق الإنسان.

كما تشهد المنطقة المحيطة بالكنيسة نقاشات حول إنشاء "بيت الديمقراطية"، كمركز تعليمي وتوثيقي يكمّل الدور الرمزي للمبنى، ويحوّله من رمز صامت إلى مساحة تعليمية نشطة.

 

كنيسة القديس بولس هي مثالاً فريداً على قدرة المكان المعماري على حمل معانٍ تتجاوز وظيفته الأصلية، ليصبح شاهداً على تطور الوعي السياسي والهوية الوطنية في ألمانيا