زيد بن كمي يكتب: «ماذَا يحدث في حضرموتَ؟»
مَا يجرِي في حضرموتَ اليومَ لا يمكنُ قراءتُه بمعزلٍ عن تاريخٍ طويلٍ من التشكّل السّياسي والاجتماعي في جنوب اليمن، ذلك التاريخ الذي يشرحه الأميركيُّ جون ويليس أستاذُ التاريخ في جامعة كولورادو في كتابه «تفكيك الشمال والجنوب: خرائط للذاكرة اليمنية» الصادرِ عن دار هيرست عام 2012.
في كتابه هذا يبيّن ويليس أنَّ الجنوبَ - وبخلافِ الصّورة النّمطية التي تُقدّم أحياناً عنه - لم يكن يوماً كتلةً سياسية واحدة، بل فضاءٌ واسع من الشَّبكات المحلية والولاءات والمراكزِ المتعددة. وهذه الخلفية تجعلُ أيَّ محاولةٍ لفرض السَّيطرة عَنْوَةً على محافظةٍ بحجم حضرموتَ مجردَ اصطدامٍ بتاريخ لا يقبل الهيمنةَ المفاجئةَ ولا التحولات القسريَّة.
التَّحركاتُ الأحاديَّة التي قامَ بها المجلسُ الانتقالي في حضرموتَ قبل أيامٍ هيَ محاولةٌ لخلق واقع يتجاوز المجتمعَ المحلي وتوازناته، متجاهلاً الطبيعةَ الخاصةَ لهذه المنطقة، التي طالمَا حافظت على مسافةٍ سياسيةٍ عن مراكزِ التوتر. هذا مَا يفسّر الحزمَ الذي أظهرته السعودية في بيانها، حيث أعلنت بوضوح رفضها القاطع لسيطرة المجلس الانتقالي على حضرموت، وعدّت ذلك خرقاً مباشراً للمرحلة الانتقالية وتقويضاً لسلطة الحكومة الشرعية، ومحاولة تستدعي مواجهةً سياسية لا تُبنَى على منطق السلاح.
لذَا، فإنَّ الرياضَ أكدت في بيانها ضرورةَ انسحابِ قوات المجلسِ الانتقالي من محافظتي حضرموتَ والمهرة، وعودةِ الأوضاع إلى ما كانت عليه، وتسليمِ المواقع والمعسكراتِ إلى قوات درع الوطن، وهذا الإصرارُ ليس مجرد إجراءٍ عسكري، بل محاولةٌ لقطع الطّريق أمام تكرار نماذجِ انفلاتٍ مشابهة شهدها اليمنُ خلالَ العقد الماضي، ولمنعِ انزلاقِ حضرموتَ إلى فوضَى لا طاقة لها بها.
وترى الجارةُ الكبرى السعودية، بعينِ الخبير والعارفِ بالتاريخ، أنَّ القضيةَ الجنوبية، هي قضيةٌ عادلة لا يمكن تجاوزها، وهو ما ذكره ويليس أيضاً في كتابه المذكور، بأنَّ «اليمن الجنوبي لم يُبنَ تاريخيّاً على قيادةٍ أحادية أو مرجعيةٍ واحدة، بل على تعدُّدِ الأصواتِ والمكونات». ولهذا، فإنَّ اختزالَ القضية الجنوبية في شخصٍ أو فصيل واحد لا ينسجم مع تاريخِ الجنوب ولا مع طموحاتِ شعبه، والقضية ـ كما تراها الرياض ـ تخصُّ أبناءَ الجنوب بكلّ تنوّعهم، ومن غيرِ المقبول تحويلُها إلى ذريعةٍ لفرض السّيطرةِ أو تغيير الوقائعِ بالقوة.
وبناءً على هذا، فإنَّ المجلسَ الانتقاليَّ يتحمَّل مسؤوليةَ التجاوزات التي ارتكبتها قواتُه خلالَ الأيام الماضية في حضرموت، وما حدثَ من اعتقالات أو إخفاء قسري ونهبٍ وإخلاء للمنازل بالقوة، وهي أفعالٌ مقلقة وتتقاطع مع ممارساتِ الميليشيا الحوثية، ما يجعلُ رفضَ الرياض قاطعاً لأي محاولة لاستنساخِ هذا النموذج في الجنوب أو الشرق.
وتدرك العديدُ من دول العالم أنَّ المواطنَ اليمنيَّ، الذي يواجه اليومَ انهياراً اقتصادياً غير مسبوق، لا يحتمّل فتحَ جبهاتٍ داخلية جديدة، ولذلك حينما دَعتِ الرياضُ جميعَ المكوّناتِ اليمنيةِ إلى العودة إلى مظلَّةِ مجلسِ القيادة الرئاسي، فإنَّها تقوم بدورها الدولي والإقليمي لتقديم الأولوياتِ الاقتصادية والتنموية على حسابِ صراع النفوذ، والعمل بروحٍ واحدة لوقفِ الانحدار الذي يعيشه البلدُ منذ سنوات.
ما حدثَ في حضرموتَ ليس مجردَ تنازعٍ على السيطرة، بل اختبارٌ حقيقي لمدى قدرةِ اليمنيين على احترام رواسب تاريخهم، ولقدرتهم على بناءِ استقرار لا يقوم على فرض القوة، والعمل على منع تكرار أخطاء الماضي، وإعادة اليمن إلى مسار سياسي يضمن للجميع شراكةً عادلةً تحفظ الأمنَ، وتعيد رسمَ مستقبلٍ لا مكان فيه للمغامراتِ العسكريةِ ولا لمحاولات إعادةِ هندسةِ الجغرافيا السياسية عَنوَةً.
نقلًا عن صحيفة الشرق الأوسط