مجلس التحرير: مجموعة صحفيين عرب
الموقع قدم أوراق اعتماده
الى نقابة الصحفيين العراقيين

د. ياسر عبد العزيز يكتب: «من الفاشر إلى غزة... كيف ننشر مشاهد الفظاعات؟»

نشر
د. ياسر عبد العزيز
د. ياسر عبد العزيز

من غزة التي ما زالت تمطرها النيران، وتسحقها معاول «الإبادة الجماعية»، إلى السودان الذي يتخضب بالدماء، وتتمزق أوصاله، تتدفّق إلى غرف الأخبار مَشاهد تقطع نياط القلوب... وجوه مذعورة، وأجساد ممزّقة، وأطفال انتُزعت منهم البراءة، ونساء يصرخن في ضجيج الصور والمَشاهد الصادمة.

أمام هذا السيل من الفظائع، يقف الصحافي، ومُحرر النشرة، والناشط على مواقع «التواصل الاجتماعي» أمام مأزقٍ مهني وأخلاقي عميق؛ بين واجب الشهادة على الحقيقة، والخشية من أن يتحوّل النشر إلى شكلٍ آخر من العنف... عنف رمزي يُجدد مواجع الضحايا، ويطعن إنسانيتهم في مقتل. في مثل هذه اللحظات، لا يكفي الإيمان بالمهنة وحده، بل يلزم أيضاً الحرص على وجود وعي أخلاقي يزن الكلمة كما يزن الصورة، وضمير يدرك أن للإنسان كرامة لا يملك الإعلام أن يبدّدها.

إن المَشاهد القادمة من ميادين الحرب تُغري بالعرض، لأنها صادمة ومثيرة وتُغذّي ما يسميها علماء الإعلام «جاذبية الرعب»، كما أنها تحظى بالقدر الأكبر من اهتمام الجمهور، وتحقق العوائد الأدبية والمادية للصحافي والوسيلة. فالمُتلقي، المُنهك من زحمة الأخبار، يتوقف أمام صور الفظاعات والدماء والأشلاء مشدوداً، بقوة الغريزة الإنسانية والمهنية، إلى تفاصيلها الموجعة. وهنا يبرز السؤال الخطير: هل يُستغل الألم لتغذية الفضول، أم يُعرَض الألم لتقصي أبعاده، ولفهم أسبابه، ولتحديد المسؤول عنه، وصولاً إلى توفير الشروط الموضوعية لمساءلته ومحاسبته؟

إن نشر مَشاهد القتل والتعذيب والاغتصاب ليس فعلاً مهنياً أو إجرائياً مُحايداً، بل قرار يحمل تبعات إنسانية ونفسية وقانونية تتجاوز لحظة النشر إلى ما بعدها. فالصورة التي تصفع عين المُشاهد قد تخلّف ندبةً في روحه، وقد تزرع الخوف أو البلادة في وجدان عام يحتاج إلى الإدراك والتعاطف لا إلى تغذية الفضول واللامبالاة.

ومن هنا، راكمت الأكاديميات المتخصصة والبيوت الإعلامية الكبرى، بعد تجارب دامية في العراق وسوريا وأوكرانيا والصومال والسودان، وغيرها، قواعد مهنية صارمة لضبط التعامل مع الصور العنيفة. وأولى هذه القواعد تتمثل في عدم نشر المَشاهد إلا ما يحمل منها قيمة خبرية ومعرفية حقيقية، ويخدم الفهم العام للحدث، لا ما يقتات على الصدمة البصرية، و«جاذبية الرعب». وثانيتها تتمثل في ضرورة التحقق الصارم من المصدر والسياق، حتى لا تُبنى الروايات على مقاطع مفبركة أو مقتطعة، خصوصاً في عهد مُمكنات التزييف الطاغية. وثالثتها تتعلق بضرورة صون كرامة الضحية، فلا تُعرَض وجوه الموتى، ولا تُكشَف أجسادهم، ولا تُنشَر صور تُحوِّل الإنسان إلى مادة للجذب وتلبية الفضول. أما في قضايا الاغتصاب والانتهاكات الجسدية، فالحجب واجب ولا تبرير لتجاوزه، لأن نشر المَشاهد التفصيلية - مهما كانت الدوافع - يعيد إنتاج الجريمة، ويفاقم معاناة الضحية وذويها.

ولذلك، فإن السؤال المطروح هنا يجب ألا يتوقف عند «هل ننشر؟»، بل يتعداه إلى «كيف ننشر؟». فوسائل الإعلام الرصينة تضع آليات دقيقة لتقليل وطأة المَشاهد الصادمة؛ عبر أدوات تمويه الوجوه، وتقطيع اللقطات الدموية، والاكتفاء بعرض ما يخدم السياق الإخباري دون إغراق في التفاصيل. كما تراعي ضرورة التحذير المُسبق للجمهور قبل بث أي مشهد قاسٍ، وتحرص على ألا تظهر الصور الصادمة على الصفحات الأولى، أو في صدر النشرات، بل في مساحات داخلية، لمَن أراد أن يراها عن وعي واختيار. فالحقيقة، وإن كانت حقاً للجميع، لا يجب أن تُقايَض بكرامة الناس ومشاعرهم.

إن الصحافة، وإن كانت ابنة الحقيقة، فمن واجبها أيضاً حراسة الكرامة الإنسانية. فالغاية ليست أن تُروى الفظاعة كما هي، بل أن تُفهم وتُوثق في إطارها الإنساني والقانوني. فالإعلام النزيه لا يكتفي بإشهار الدم، بل يسعى إلى مساءلة سافكيه، وتحويل الصورة من «أداة رعب» إلى «وثيقة إدانة». وهنا يتبدّى جوهر الدور المهني: الشجاعة في المواجهة لا الشراهة في النشر، والقدرة على نقل الحقيقة لا على مضاعفة الألم.

وعبر هذا التوازن بين الفضح والحماية تكمن مهمة الإعلام المسؤول. فالصحافي المهني المسؤول لا يهرب من المشهد الموجع، لكنه يقدّمه وفق شروط إنسانية وأخلاقية ومهنية مُحددة. ولا يخشى أن يروي الجريمة، لكنه يرويها بوسائل تحفظ للضحايا وذويهم كرامتهم، وتصون إنسانيتهم.

إن الحقيقة لا تُخدَم بالانتهاك، والعدالة لا تتحقق بالإيذاء. وفي عالم تتسابق فيه الشاشات إلى الدماء، تظل المهنة بحاجة إلى مَن يعيد إليها معناها الأهم: أن تكون مرآة للحقيقة لا صائداً للفضول، وأن تضيء وعي الناس لا أن تحرق أعصابهم وتتغول على كرامتهم. هكذا، فقط، تظل الصحافة شاهدة على الجريمة لا شريكة فيها، وتظل أعينها حارسة للقيم المهنية والأخلاقية، لا مُستثمرة في أوجاع الناس.

نقلًا عن صحيفة الشرق الأوسط