غسان شربل يكتب: «بوتين وأعراس ترمب»
منذ وقتٍ غير قليلٍ تتشابه الشَّاشاتُ في مكتبه الواسع. كأنَّها تعيد المسلسلَ نفسَه. يصعبُ تصديقُ الأمر. كأنَّ هوليوود لم تنجبْ إلا نجماً واحداً ووحيداً. البطل عينه يتكرَّر. ربطةُ عنقٍ حمراءُ مستفزةٌ تخلي المكانَ أحياناً للون الأزرق. قبضةٌ لا تتعب. يستقبلُ ويودع. يهدّد ويطمئن. يلوّح بالعقوبات ثم يبرم الصَّفقات. إذا شاركَ في حدث تحوَّل الحدث. وإذا غاب عن قمةٍ خفض من بريقها. مفردات المبالغة إن رضيَ وإن غضب.
ينتقده الصحافيون لكنَّهم يلحقون به أنَّى ذهب. يصطادون سقطاتِه لكنَّه سرعان ما يقدّمها في صورة انتصارات ويسخر منهم. إنَّه أبرع منهم. في فرض الأخبار العاجلة. وليّ عنق المناسبات. واقتناصَ الصورة. وصوغِ العناوين. والترويج. والتسويق. ورسالتُه صريحة. أنا الرَّجل الأقوى في البلاد الأقوى في العالم. لا يقلقه الإغلاقُ الحكومي. ولا تربكه عناوينُ الصحف الكبرى التي كانت تؤرق أسلافه أو تدفعهم إلى الانسحاب والنسيان. الكراهيات تضاعف وقود اندفاعه. ينقسم العالمُ حوله كما لم ينقسمْ حول أحدٍ. هذه متعة الزعامةِ وهذا سرُّ لمعانِها.
رجلٌ واحد على شاشات كثيرة. شيء ما يتململ في داخله. هل هي الغيرة تتسلَّل إلى أيامه؟ ينتفض كم جرح لمجرد التساؤل. لا يحقُّ للقيصر أن يشعر بالغيرة. يكفيه أنَّه القيصر. سيد البيت الأبيض موظفٌ عابر. القيصرُ حاكمٌ مقيم. الدستور سيفٌ على عنق الرئيس الأميركي. يلجمه ويعاقبه ويرسم حدوداً لولايته. روسيا العظيمة لا تستعذب الإقامةَ في ظلّ الرجال العابرين. القيصر ليس موظفاً في جمهورية الدستور. الدستور نادلٌ في مكتب القيصر.
ابتهج ذاتَ يوم بعودة دونالد ترمب إلى المكتب البيضاوي. توقع أن يغسل الرَّجل يديه من بلاد زيلينسكي وأن يدفعَ الأخير إلى التوقيع على وثيقة استسلام. كانَ يأمل أن يتذوّق ذهبَ الانتصار الكاسح. وأن يقنعَ الروس أنَّ المغامرة الأوكرانية كانت تستحق كلَّ هذه الدماء وكل هذه الدموع. اكتشف أنَّ هذا الرجلَ الفوضوي أصعبُ وأخطر مما اعتقد. يحدد له مواعيدَ وإن لم يسارع إلى تلبيتها يلوّح بسيف العقوبات كمن يحاول استدعاءه مرغماً. لن يذهب.
لا يستطيع أن يغفرَ للغرب جريمتَه الكبرى. ذبح الاتحادَ السوفياتي من الوريدِ إلى الوريد. ومن دون رصاصةٍ أو سكين. قتله بجاذبيةِ النموذج. فكَّكه واستولَى على الكثير من أملاكه. نادتِ الرُّوحُ الروسية رجلاً وكان الرجلَ. رمَّم الاتحاد الروسي واستعدَّ لطي صفحة استضعاف بلاد لينين تمهيداً لاستعادة بعض المفقودات. أطلقَ الحرب في أوكرانيا لتأديب الشقيقةِ الخائنةِ واستنزاف الغرب. لا يكفي أن تذهب إلى الحرب. الأهم هو أن ترجع باكراً منها وأن ترجع منتصراً. ما أصعبَ هذه الرحلة! أوروبا الهرمة لا تبخل على زيلينسكي بالمليارات ومفتاح الحلّ في يد الرَّجل الأميركي الصاخب.
قبل وقت قصير جاءَ ترمب إلى شرم الشيخ ولحقت به الأضواء. وحدَه كان قادراً على إرغام بنيامين نتنياهو على وقف حرب الإبادة التي يشنُّها في غزة. أمسك ترمب بكل الخيوط. أعلن عرساً وبدا كمن يعيد رسمَ ملامح الشرق الأوسط. كان زمنُ ما بعد «طوفان السنوار» صعباً على روسيا. لم تكن قادرة على إنقاذ مواقع إيران في سوريا. لم تكن قادرةً أيضاً على إنقاذ بشارِ الأسد الذي كانت تدخلت قبل عقدٍ مع إيران وأنقذته. أقصى ما فعلته هو منحُ الأسد اللجوءَ الإنساني في أراضيها. دخل أحمد الشرع قصرَ الرئاسة وجلسَ على كرسي الأسدين. سدَّد رجب طيب إردوغان طعنةً نجلاء إلى الطوق الذي ضربته إيرانُ حول قسم من المنطقة. جاءنا الشرعُ المنهمك بحفظِ وحدة بلاده وإعادةِ إعمارها. يريد إقامةَ شبه توازن لكنَّه يعرف تماماً أنَّ المفتاح الحاسم بيد ترمب. ليس سراً أنَّ موقع سوريا الجديدة لا يشبه أبداً موقع سوريا السابقة.
الشَّاشات شديدة التشابه. كلما دُعي إلى مناسبة سرق ترمب الأضواء وحوّلها عرساً. محطات جولته الآسيوية مهمة ومثيرة. ماليزيا واليابان وكوريا الجنوبية وموعده الكبير مع شي جينبينغ. قبل وصوله دفع لعبته إلى أقصاها. الإغراءات والعقوبات. موازنة النفوذ الاقتصادي والمبادرات السياسية. أسلوب «الصفقات المتقاطعة» الذي يربط الملفات التجارية بالأمنية والسياسية. يريد إثبات أنَّ أميركا لا تزال القوة المحورية في آسيا رغم التحولات المتسارعة. وهذا يعني مصير الكوريتين وصديقه الشائك كيم جونغ أون. ويعني مستقبلَ تايوان وحلم إمبراطور الصين الحالي باستعادتها لتسجيل هدف تاريخي في شباك ماو تسي تونغ.
في السبعينات لا يبقى أمام اللاعب الكبير غير أن يتحسَّس موقعه المقبل في التاريخ. هل قيّدتِ الحربُ في أوكرانيا قدرتَه على المناورة والتحرك؟ هل ينهال زعيمٌ روسي مقبل على إرثه كما انهال خروشوف ذات يوم على جثة ستالين؟ في بداية القرن كان النَّجمَ الواعد واللامع. احتفلت به العواصم وتكرَّرت صورته على الشاشات. وها هو الربع الأول من القرن ينتهي بسلسلة من الأعراس الأميركية. تايلند وكمبوديا توقعان اتفاقاً لوقف النَّار تحت أعين ترمب. وضع سيد البيت الأبيض هجماته الاقتصادية والسياسية المتلاحقة تحت راية صانع السلام.
جاء بوتين لاستعادة عظمة روسيا التي أذلها الغرب وخانها ركاب القطار السوفياتي. وها هو ترمب يستعيد عظمة أميركا ومصالحها بأعراس سريعة. يتحسَّس سيد الكرملين ترسانته النووية فيما يتحسَّس سيد البيت الأبيض جائزة نوبل للسلام.
نقلًا عن صحيفة الشرق الأوسط