مجلس التحرير: مجموعة صحفيين عرب
الموقع قدم أوراق اعتماده
الى نقابة الصحفيين العراقيين

عبد الرحمن شلقم يكتب: عالم يتلكَّأ في إعادة رسم خرائطه

نشر
الأمصار

في الأمم المتحدة تتجمَّع 194 دولة. في كلّ سنة تعقد الجمعية العامة، دورةً يلتقي فيها قادةُ العالم، يتحدَّثون عن أمهاتِ القضايا الإقليمية والدولية، ثم ينفضُّ الاجتماع العالمي الكبير، لكنْ كلُّ ما قيل في الخطب القصيرة والطويلة، لا يتحوَّل إلى أفعال، تحرك أو تغير ما يموج في العالم من أزمات سياسية واقتصادية ومناخية. مجلس الأمن بأعضائه الخمسة عشر، هو الأداة التنفيذية لحفظ السلم والأمن الدوليين، لكن القرار في يد الدول الخمس التي تملك حقَّ الفيتو. الخلافات بين الأقوياء الخمسة، كثيراً ما تحوّل هذا المجلس إلى كائن معاق ويعيق.

 

بعد الحرب العالمية الثانية، انقسم العالم إلى كتلتين رئيسيتين. غربية رأسمالية تقودها الولايات المتحدة، واشتراكية يقودها الاتحاد السوفياتي. ساد سلام مدجّن، فيما عرف بالحرب الباردة، وإن لم تغب الحروب الإقليمية المحدودة. منطقتا الشرق الأوسط وجنوب شرقي آسيا، كانتا فوهتي بركان الصراع المسلح. لكن السلاح لم يصمت في مناطق أخرى. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وتفكك الكتلة الاشتراكية الشرقية، انفرد الغرب الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة، بقوة التأثير في الفعل العالمي سياسياً واقتصادياً وحتى عسكرياً.

اليوم نشهد عالماً جديداً يتخلق، بقدرات وسرعة غير مسبوقة. لم تغبِ الصراعاتُ الإقليمية، والاضطرابات الشعبية والمشاكل الاقتصادية. الحربُ الروسية في أوكرانيا، ألقت ثقلاً حاراً على سطح العالم، ولا يلوح ضوءٌ لحل قريب. إلى أين ستمضي هذه الحرب التي طالت، ويذكيها دعمٌ عسكريٌّ وسياسيٌّ غربيٌّ أوروبيٌّ أميركيٌّ لأوكرانيا، وتصلّب روسيٌّ يصعّد عنفَه العسكري، وتغيب التنازلات المتبادلة، التي تفتح مسارب السلام. القضية الفلسطينية لم تعد جرحاً عربياً فقط، بل تطورت إلى ناقوس دم يهزّ العالم بأسره. حربُ الإبادة الواسعة التي شنَّتها إسرائيلُ على غزة، دخلت إلى شوارع المدن في كل قارات العالم. المظاهرات التي تدافعت فيها الملايين تضامناً مع الضحايا والجرحى في غزة، وإدانة للدمار الشامل على أرضها، إعلان عن بروز قوة عالمية فاعلة سياسياً وأخلاقياً، فرضت على الحكومات في العديد من دول العالم، تعديل أو تغيير مواقفها تجاه إسرائيل. لقد تضامنتِ الشعوب، مع الشعب الفيتنامي ضد الحرب الأميركية الطويلة عليه، وانعكس ذلك التضامن على الداخل الأميركي ذاته، لكن حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة، كان لها ظهيرٌ غير مسبوق، وهو وسائل الإعلام المرئية، التي أدخلت مشاهد تلك الحرب إلى البيوت والضمائر على اتساع الدنيا. القضية الفلسطينية جرح لم يندمل، بل يزداد نزفاً كل ساعة. الاستيطان الإسرائيلي الذي يقضم دون توقفٍ أجزاء من الضفة الغربية، والإصرار الإسرائيلي على رفض قيام دولة فلسطينية، وجنوب لبنان حيث يستبيح الجيش الإسرائيلي أرضَه يومياً. إيران رقعة القلق المتفجر تمدُّ أذرعها العقائدية المسلحة في أماكن مختلفة، تضربها المطارقُ الجويَّة الإسرائيلية والأميركية، يلتف حولها زنّار أسئلة متحركة. ويبقى ما يُسمى الشرق الأوسط، جبالاً من القشّ القابلة للحرق والاحتراق.

حروب أهلية في بقاع مختلفة من العالم، وعواصف إرهابية يذكيها التطرف، ومجاعات يعاني من ويلاتها الملايين. شبابٌ وكهول يغامرون بعبور الصحراء الكبرى، وركوب البحر على قوارب الموت، في هجرات المغامرات الأخيرة، نحو دول تلوح منها أضواءُ الحياة والرفاهية. أفريقيا القارة السمراء الواسعة التي تعيش فوق كنوز من أغلى المعادن، وتتدفق الأنهار فيها، وغابات تجعل من أراضيها جناتٍ خضراء، أرهقتها الانقلاباتُ العسكرية والحروب الأهلية والصراعات القبلية، وزحفتِ المجموعات الإرهابية على مساحاتٍ واسعة فيها. غابتِ التنميةُ والحكمُ الرشيد في عدد من البلدان الأفريقية، وتزاحمتِ الأطماع الخارجية، حتى تحوَّلت إلى حربٍ باردة بين المتدافعين على ما في بطن القارة وفوق أرضها. عالمنا يعيش اليوم حالةَ فقدان توازن عشوائي، تحركه أنانية انتهازية. الدول الأكثر غنى لا تعير اهتماماً بتلك التي يسحقها الفقر والاضطراب. حروب كبيرة وصغيرة، لا تحرك من لهم القدرة على كبح ويلاتها. الحديث عمَّا يعانيه المناخ في العالم، لا يجد خطواتٍ عمليةً تنفيذية، لمواجهة الكوارث التي تهدّد البشر، وما زال الفحمُ الحجري المصدر الخطير للتلوث، يشكل مصدراً أساسياً من مصادر الطاقة، دون الالتزام بما تم الاتفاق عليه بين الدول.

ما أُطلق عليه اسم العالم الثالث، وهو يضمُّ دولاً أفريقية وآسيوية وأميركية لاتينية، يعاني من ويلات الفقر والبطالة وتدني مستوى التعليم، دون أن تمتدَّ له يد المساعدة من القادرين، في العالم الأول والثاني.

هذه القراءةُ للواقع العالمي اليوم، لا تحمل نبرةَ تشاؤم، بقدر ما تحاول طرح أكثرَ من سؤال. هل هناك إمكانية أن تكون هناك مراجعة سياسية عالمية جادة، للخريطة الاقتصادية والسياسية والبيئية لعالمنا اليوم، وتخليق مقاربة مسؤولة، لرتق ما يعانيه العالم من فجوات، لا تهدد السلام العالمي فحسب، بل تهدد الوجود البشري؟ بعد الحرب العالمية الثانية، قدمت الولايات المتحدة الأميركية، مساعدات هائلة لأوروبا عبر مشروع مارشال، الذي حقق نهضة أوروبية شاملة في جميع المجالات. لا ننكر أن هناك عوائق عديدة اليوم، لإطلاق مشروع مماثل على مستوى العالم، لكن يبقى الأمل في أن يفيق الذين ينفقون التريليونات على السلاح، وأن يخصصوا جزءاً منها للتنمية والنهوض في البلدان المحتاجة. التنمية والتطور والتقدم والعلم، هي قوة السلم الحقيقية.

 

 


(نقلًا عن صحيفة الشرق الأوسط)