غزة تستيقظ على الهدنة.. النازحون يعودون والأنقاض تروي حكاية الحرب

في ظهر أمس الجمعة، دخل اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية حماس حيّز التنفيذ رسميًا في قطاع غزة. هذه الخطوة تأتي بعد حربٍ استمرت عامين، خلفت دمارًا هائلاً وخرائب لا تُحصى، وآلاف النازحين الذين فرّوا ظننًا أن الأمان ممكن، لكنهم عادوا اليوم ليجدوا أن البعاد عن الضلال لم يكن كافيًا لإنقاذ ما اختُطف.
عودة آلاف النازحين: طريق العودة محفوف بالركام
مع بدء تنفيذ الهدنة، تهافت آلاف الغزيين للعودة من الجنوب إلى شمال القطاع. كثير منهم سلكوا شارع الرشيد سيرًا على الأقدام، لا يحملون إلا الذكريات والصور التي باتت أجرب ما بقي من بيوتهم.
لكن العودة ليست احتفالًا كما خُيِّل للبعض؛ فهي دفقة حزن جديدة تُغرسُ في قلب كل صاحب دارٍ تهدّمت، وصورة طفلٍ يرى سقف بيته والرمل يملأ الفُسحة.
بنود وقف إطلاق النار: صمتٌ عسكري مفتوح ونقاط خلافية لا تزال تقضّ

الاتفاق يتضمّن عدة عناصر أساسية، بعضها تمّ التوافق عليه، والبعض الآخر بقي محلّ تفاوض وجدل:
- وقف إطلاق النار الفوري، وإن كان التنفيذ الكامل لا يزال يتطلّب خطوات لوجستية وسياسية.
- تبادل الأسرى بين الطرفين: من أبرز الملفات التي أثارت التوتر، وموضوعًا محلّ تفاوض دقيق جدًا.
- انسحاب جزئي للقوات الإسرائيلية من مناطق محددة داخل غزة، مع جدولة زمنية للانسحاب التدريجي.
- فتح المعابر الإنسانية، وخاصة معبر رفح، والسماح بدخول مساعدات عاجلة للمدنيين العالقين في مناطق الحصار والدمار.
لكن هناك ملفات حساسة لا تزال غير محسومة بشكل نهائي، مثل:
- نزع سلاح حماس أو ما إذا كان هناك ضمانات دولية لوقف دائم للأعمال القتالية.
- تفاصيل تبادل الأسرى: عددهم، جنسياتهم، ما إذا شملوا جرحى أو مرضى أو كبار السن.
حجم الدمار: أكثر من نصف المنازل مهدومة والخدمات في مهب الريح

الفرق التي عادت إلى الشمال اكتشفت أن الدمار تجاوز 80٪ في بعض المناطق، خاصةً في المباني السكنية والمرافق الحيوية من مستشفيات، مدارس، وشبكات مياه وكهرباء. كثيرون وجدوا منازلهم مدمّرة بالكامل، وما تبقى منها عبارة عن ركام لا صدى فيه إلا آهات الماضي.
من جهة أخرى، البنية التحتية للقطاع تعرَّضت لضربات قوية متكرّرة، ما جعل التشغيل شبه مستحيل لبعض الخدمات الأساسية المياه مقطوعة، الكهرباء شبه مفقودة أو متقطعة، والمستشفيات تعمل بوضع طوارئ محدودة.
المعاناة الإنسانية: بين الخسارة والأمل
النازحون الذين عادوا، رغم الحزن، حملوا معهم أملًا خافتًا — أمل بالعودة إلى الحياة الطبيعية، ولو جزئيًا. بعضهم فقد أفرادًا من عائلته، بعضهم فقد كل شيء، وحتى منازلهم أصبحت دِماءً تسيل ذكريات، لكن البقاء بعد الفقدان له طعم آخر، لا معنى له دون منزل، لا مأوى فيه ولا قلب ينبض بالدفء.
النساء الحواملُ، المرضى، كبار السن، ذوو الاحتياجات الخاصة كانوا أشدّ المتأثرين في رحلة العودة؛ بعضهم يجبر على التخفيف من أوجاعه، بعضهم يمشي لمسافات طويلة، يدخل بيتًا لم يكن يُعرف إنه كان يوما بيتًا.
وتتردد الأسئلة: من سيساعد على إعادة البناء؟ كيف سيُعوّضون الخسائر؟ من سيعيد تشغيل مرافقٍ اختفت مؤقتًا أو تدمّرت؟ في ظل الأزمات الاقتصادية العالمية، والمطلوب إغاثة عاجلة تنقذ ما يمكن إنقاذه من حياةٍ يومية.
دور الوسطاء والدول الفاعلة: مسارات السلام بين التحدّيات
الاتفاق جاء بجهود وساطة كبيرة من مصر، قطر، والولايات المتحدة، مدعومة من أطراف دولية تسعى إلى تهدئة الوضع ومنع انتشار المعاناة. ترامب أعلن خطةً من 20 بندًا للسلام، تتضمّن آليات لتبادل الأسرى، لوقف إطلاق النار، ولإنشاء إدارة مؤقتة وإعادة إعمار، لكن التطبيق الكامل لهذه الخطة يواجه عقبة التنفيذ على الأرض والتزام الأطراف.
الدول الأوروبية، الأمم المتحدة، والجهات الإنسانية شددت على أهمية احترام حقوق المدنيين، وضمان دخول المساعدات، وتخفيف الكلفة البشرية للصراع.
الآفاق المستقبلية: هل تستمر الهُدنة؟
الآن، يتربّع السؤال على ألسنة الجميع: هل هذا الهدوء سيستمر؟ وهل الاتفاق سيُترجَم إلى وقْع ملموس على الأرض؟ أم أنه سيبقى "اتفاقًا مكتوبًا لا يلامس الواقع؟"
من بين المتطلبات العاجلة:
- ضمان تنفيذ انسحاب القوات الإسرائيلية بتوقيت زمني واضح، بحيث لا يبقى وجود عسكري في مناطق يُفترض أنها عادت للمدنيين.
- تبادل أسرى كامل وعادل، حقيقي لا تأجيل فيه، خصوصًا للمرضى والجرحى والمسنّين، من دون شروط تعجيزية.
- تدفق المساعدات الإنسانية بلا عوائق، خصوصًا المواد الغذائية، الوقود، الأدوية، وكل ما يلزم لإعادة الحياة في المنشآت التي دُمّرت.
- إعادة الإعمار الفوري: بيوت، مدارس، مستشفيات، كهرباء، ماء، وشبكات الصرف الصحي. هذا لا يبدأ إلا بوصول مواد البناء والدعم الفني والمالي.
غزة اليوم تقف على مفترق دروب: بين البكاء على ما كان، وبين الأمل الذي يشقّ طريقه وسط الأنقاض. الهدنة التي دخلت حيّز التنفيذ هي فرصة ثمينة لاستعادة ما تبقّى من الكرامة، لاستعادة الناس إلى بيوتهم، لاستعادة الحياة. لكن الفرصة تحتاج إلى إرادة حقيقية من كل الأطراف، تحتاج إلى دعم دولي، مراقبة شفافة، والمئات من الأيادي التي تُعيد البناء بعد أن أُخذت كل الأشياء تقريبًا.