مجلس التحرير: مجموعة صحفيين عرب
الموقع قدم أوراق اعتماده
الى نقابة الصحفيين العراقيين

أحمد محمود عجاج يكتب: دفاعاً عن القانون الدولي وغزة تُباد

نشر
الأمصار

في كتابِه عن قانونِ الحرب والسلام أكَّد الفقيهُ الهولنديُّ في بداية القرن السابع عشر هوغو غروتيوس، أنَّه لا يمكن لكلّ الأمم حتى ولو اجتمعت قلباً واحداً أن تتنصَّلَ من قانون الطبيعة؛ قاصداً قانون القيم الأخلاقية وسيادة العقل المتأصلة في طبيعة البشر. 

 

ورغم نشأة القانون الدولي الأوروبية المنحازة فإنَّه تطوَّر تدريجياً، لتشارك فيه كل الدول، وبلغ أوجَهُ بمناداة ميثاق الأمم المتحدة لـ«إنقاذ الأجيال القادمة من ويلات الحروب». ثم استمر تطوُّرُه، رغم عثراته، ليتضمن اتفاقيات حقوق الإنسان، ويرفع الفرد إلى مصافِّ الدول، بمنحه حق مقاضاتها صوناً لحريته وكرامته. ولا يزال رغم هذه القفزات يُنظر إلى القانون الدولي على أنه حبر على ورق ما دامت تُنتهك قواعده القانونية يومياً، وقرارات محاكمه بلا تنفيذ، ومنطق «القويّ يأكل الضعيف» سائداً. ولا شيء أدلَّ على ذلك من العدوان الإسرائيلي على غزة، وعلى ناشطين اعتقلتهم إسرائيل في أعالي البحار التي عدَّها أبو القانون الدولي غروتيوس في كتابه «قانون البحار» منطقة ملاحة حرة يُحظر انتهاكُها إلا في حالات ضيقة كمنع المتاجرة بالعبيد أو القرصنة.

 

 

كثرٌ يشككون في جدوى القانون الدولي، وقِلَّةٌ تُخالفهم الرأي؛ المشككون في جعبتهم دلائل لا تُحصى على عقم القانون الدولي، بدءاً من عدوان إسرائيل المخالف للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة ومن متطلبات التناسب بين الاعتداء والرد، مروراً بانتهاكات كل مواثيق حقوق الإنسان، وانتهاءً بقرارات محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجزائية الدولية. القلة المتفائلة ترى -وفق قاعدة مفهوم المخالفة- الفضل للقانون الدولي بصدور قرارات المحاكم الدولية، وبإظهار عدوان إسرائيل؛ لأنه الميزان الذي به توزن الأعمال المخالفة، وعلى أساسه تصدر الإدانة. فكيف تمكن إدانة إسرائيل لو لم يوجد قانون دولي، وعلى افتراض أنه ليس موجوداً، فبديله حتماً قانون الغاب، وقانون الغاب يُسبغ الشرعية على التوحش والقتل. وعلى قول أحد الفقهاء؛ فالقانون الدولي مثل الجاذبية، لا تراها لكنها موجودة؛ هذا الوجود له الفضل في إجبار المتخاصمين على تبرير أفعالهم في المحاكم والإعلام، وإذا ما تمكَّن فريق من تجاهل قراراته فلا يعني موته، بل يؤشر إلى إتمام مهمته، وهي إصدار الأحكام، كما في المحاكم المحلية. وكم أصدرت محاكم محلية أحكاماً ولم تنفَّذ؛ لعدم الإمساك بالفاعل أو لمحاباة، أو لعجز مادِّي مؤقَّت. فما نراه في غزة ليس عجزاً للقانون الدولي بل فشل واضح للسياسة الدولية. فمحكمة العدل أصدرت حكمها الظنِّي، وأوفت المحكمة الجزائية الدولية بدورها فاتهمت رئيس وزراء إسرائيل ووزراء معه بجرائم حرب، لكنَّ الرئيس ترمب هدد قضاة المحكمة، ولم يعترف بها، وبالتالي فالمشكلة ليست في القانون الدولي بل في الذين يعرقلون تنفيذه.

عرَّى القانون الدولي إسرائيلَ تماماً لانتهاكها قيمَه، ونصوصَه، ومؤسساتِه، فتفاعل المؤيدون من جماهير دول العالم ونزلوا إلى الشوارع، وبالتحديد في بلدان فاعلة ومؤثرة، ينددون بوحشية إسرائيل وانتهاكاتها القانون الدولي، وطالبوا بمحاكمة قادة إسرائيل، ومقاطعتها. هذا الخروج الشعبي استند إلى القانون الدولي، لأنه المسطرة التي تفرِّق بين الخير والشر، وله الفضل في أن المبادرة العربية (السعودية) الأخيرة للاعتراف بدولة فلسطين ارتكزت إليه، وإلى قراراته وبالتحديد ما تسمى الأراضي المحتلة التي فوقها ستقام دولة فلسطين؛ كما بفضله تُقاضي دولٌ إسرائيل بدعاوى في المحاكم، وتلاحِق كذلك منظماتٌ مدنية مائةَ جندي إسرائيلي، وربما أكثر، متهمين بجرائم حرب. وحتى نتنياهو الضارب بالقانون الدولي عرضَ الحائط، يدرك خطورة القانون الدولي، فسارع في أثناء موافقته على خطة ترمب للسلام إلى دعوة السلطة الفلسطينية إلى إسقاط كل الدعاوى ضد إسرائيل في المحاكم الدولية، وإلى وقف جميع الملاحقات بحق مواطنين إسرائيليين متهمين بجرائم حرب. هذه المطالبات تُثبت نجاعة القانون الدولي، وتؤكد، كما في المحاكم المحلية، أن الهروب من العدالة، والتواري عن الأنظار، لا يُسقطان الحكم، بل يَبقى سيفاً مسلطاً، وعند توفر الفرصة، يُعتقل المجرم ويُساق إلى العدالة، ولنتذكر منظر مجرمي حرب يوغوسلافيا، ورئيس الصرب كيف سيقوا مكبَّلين أذلّاء إلى المحكمة بعدما كانوا يتباهون بقوتهم وجبروتهم وحماية دول عظمى لهم.

المشككون ينظرون إلى الآنيِّ الكالح بينما المتفائلون يتطلعون إلى المستقبل المزهر، ولكنهم مدعوُّون، ومعهم قادة العالم، إلى إصلاح تركيبة مجلس الأمن الدولي بزيادة عدد الدول دائمة العضوية، وسحب حق النقض أو تضييق نطاق استخدامه. فالقانون الدولي رغم كل عِلَله ليس مفترضاً أن يأخذنا إلى الجنة الموعودة، كما يقول الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، داغ همرشولد، بل إلى إنقاذ الإنسانية من التدحرج نحو الجحيم. وهذا يحتِّم على البشرية الاعتصام بحبل القانون الدولي، وتنزله في صلب سياساتها؛ فالقانون فكرته في الأساس ضبط السلوك البشري، ومنع الفوضى، وحماية الناس من الضرر والأذى، وكذلك القانون الدولي مهمته حماية العالم المتقلقل من الذهاب إلى الجحيم.

 

 


(نقلًا عن صحيفة الشرق الأوسط)