سيناريوهات خطيرة.. ماذا يعني احتلال إسرائيل لكامل قطاع غزة مجددًا؟

في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وتدهور الوضع الإنساني والأمني بشكل غير مسبوق منذ أكتوبر 2023، يتصاعد في الأوساط السياسية والأمنية داخل إسرائيل حديث متكرر عن إمكانية فرض السيطرة الكاملة على قطاع غزة من جديد، أي العودة إلى احتلاله بالكامل بعد نحو عشرين عامًا من الانسحاب الأحادي الذي نفذته حكومة أرئيل شارون عام 2005.
هذا السيناريو، الذي يبدو أقرب إلى الخيار العسكري المتطرف، بدأ يطرح على طاولة صنع القرار الإسرائيلي بجدية أكبر في الأشهر الأخيرة، خصوصًا في ظل فشل كل العمليات العسكرية في القضاء على "حماس"، رغم الدمار الواسع الذي خلّفته الهجمات، والضغط الدولي المتزايد على تل أبيب لوقف الحرب.
لكن، ما الذي يعنيه فعليًا احتلال قطاع غزة مجددًا؟ وما هي الآثار السياسية والقانونية والإنسانية والأمنية المترتبة على مثل هذا القرار؟ وهل هو خطوة قابلة للتطبيق، أم أنها مغامرة قد تعمق أزمات إسرائيل بدلًا من حلّها؟
انقلاب جذري على سياسة الانفصال
عند الحديث عن "العودة إلى احتلال غزة"، فإن المقصود هو إعادة فرض السيطرة العسكرية والإدارية المباشرة على القطاع، بما يشمل التواجد الميداني الدائم للقوات الإسرائيلية، وربما أيضًا إقامة مراكز أمنية، أو حتى إحياء مشاريع استيطانية داخل حدود غزة.
هذا الأمر يعني الانقلاب التام على قرار الانفصال الذي اتخذته إسرائيل في 2005، حين انسحبت من القطاع وأخلت 21 مستوطنة كانت مقامة هناك، وأبقت فقط على سيطرتها الجوية والبحرية وعلى المعابر، وهو ما جعل غزة منذ ذلك الحين في وضع "الاحتلال غير المباشر"، حسب وصف المنظمات الدولية.
أما اليوم، فإن العودة إلى "الاحتلال المباشر" تعني أن إسرائيل ستتحمل مسؤولية كاملة كقوة احتلال بموجب القانون الدولي، سياسيًا وقانونيًا وإنسانيًا، في ظل غياب أي تصور لإقامة إدارة مدنية فلسطينية بديلة تحظى بشرعية محلية أو دولية.

قانونيًا: خطوة في اتجاه التصعيد الدولي
من منظور القانون الدولي، فإن إعادة احتلال غزة تُعد انتهاكًا صارخًا لعدد من الاتفاقيات والمبادئ الأساسية، وفي مقدمتها مبدأ حق الشعوب في تقرير المصير، الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974، ويُعتبر من المبادئ الراسخة التي لا يجوز تجاوزها.
وقد أصدرت محكمة العدل الدولية في يوليو 2024 حكمًا واضحًا يعتبر أن استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية – بما فيها غزة والضفة الغربية – أمر غير قانوني ويجب إنهاؤه دون تأخير. وبالتالي، فإن العودة إلى احتلال غزة لا تخرق فقط هذا الحكم، بل تعزز من موقف خصوم إسرائيل دوليًا وتدفع بالمزيد من الإجراءات القضائية ضدها في المحاكم الدولية، سواء بتهم ارتكاب جرائم حرب أو انتهاك للقانون الدولي الإنساني.
أما في حال قررت إسرائيل إعادة بناء مستوطنات داخل القطاع، فستكون بذلك قد ضربت بعرض الحائط القرار الأممي 2334 الصادر عن مجلس الأمن عام 2016، والذي ينص على أن الأنشطة الاستيطانية في الأراضي المحتلة غير قانونية وتُعد انتهاكًا للشرعية الدولية. مثل هذه الخطوة قد تؤدي إلى توسيع دائرة العقوبات الدولية على إسرائيل، وربما إدخالها في عزلة دبلوماسية غير مسبوقة.
أمنيًا: حرب استنزاف لا نهاية لها
من الناحية الأمنية، فإن إعادة احتلال غزة ليست مجرد قرار سياسي، بل هي انخراط مباشر في حرب استنزاف داخل واحدة من أكثر البيئات العسكرية تعقيدًا في العالم.
قطاع غزة، الممتد على شريط ضيق لا يتجاوز 365 كم²، يضم أكثر من 2 مليون فلسطيني يعيشون في ظروف خانقة منذ سنوات. كما أنه بات منذ سنوات طويلة مسرحًا لقوى مقاومة مسلحة، وعلى رأسها حركة حماس، التي تعتبر نفسها مسؤولة عن "تحرير القطاع" بعد انسحاب 2005.
وبالتالي، فإن أي عودة للاحتلال ستُقابل بلا شك بمقاومة شرسة، سواء عبر حرب عصابات، أو تفجيرات، أو قنص، أو إطلاق صواريخ، في مشهد يعيد إلى الأذهان ما عاشته الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان بعد احتلالهما.
كما أن الانتشار العسكري الدائم داخل القطاع سيتطلب قوات كبيرة، وتمويلًا ضخمًا، وخسائر بشرية متوقعة، في وقت تواجه فيه إسرائيل جبهات ملتهبة أخرى على الحدود الشمالية مع حزب الله، وموجة غضب داخلي غير مسبوقة ضد حكومة نتنياهو، الذي يواجه اتهامات بالفشل في إدارة الحرب وبالفساد.

إنسانيًا: كارثة ستمتد لسنوات
أما على المستوى الإنساني، فإن احتلال غزة مجددًا سيكون ضربة قاصمة للواقع المتدهور أصلًا داخل القطاع. فالوضع الإنساني هناك يشهد انهيارًا شبه تام منذ بدء العدوان الأخير، مع تدمير البنية التحتية، وانهيار النظام الصحي، وندرة الغذاء والدواء، وتهجير أكثر من مليون ونصف مواطن من بيوتهم.
عودة الاحتلال تعني تشديد القيود على الحركة، وفرض الحصار بشكل أكثر قسوة، وزيادة الانتهاكات اليومية ضد السكان، من اعتقالات ومداهمات وقتل وتدمير، وهو ما سيؤدي إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والنفسية.
كما يُتوقع أن تدفع هذه الخطوة موجات نزوح جديدة نحو الجنوب أو حتى عبر الحدود المصرية، في وقت يرفض فيه المجتمع الدولي – ومصر تحديدًا – أي تغيير ديموغرافي قسري داخل القطاع.
سياسيًا: مقامرة مكلفة
من الجانب السياسي، فإن خطوة من هذا النوع تُعد مقامرة عالية المخاطر لحكومة نتنياهو، التي تواجه بالفعل عزلة داخلية وخارجية. داخليًا، هناك انقسام حاد بين اليمين المتشدد الذي يدعو لاحتلال القطاع بالكامل، وبين المؤسسة الأمنية والعسكرية التي تحذر من عواقب ذلك.
وخارجيًا، تتصاعد الضغوط من الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي والعواصم الإقليمية لوقف الحرب والتوجه نحو تسوية دبلوماسية، وليس نحو إعادة الاحتلال أو تغيير الواقع السكاني.
من سيفتح هذا الباب لن يستطيع إغلاقه
في المحصلة، فإن احتلال غزة مجددًا لا يعني فقط إعادة سيناريو قديم، بل هو فتح لباب جحيم يصعب السيطرة عليه. فالمعادلة تغيرت، والمقاومة أكثر خبرة وتنظيمًا، والمجتمع الدولي أقل تسامحًا، والمجتمع الإسرائيلي أقل استعدادًا لدفع ثمن طويل.
من يفتح هذا الباب، سيكتشف سريعًا أنه باب بلا مفاتيح للعودة.