صراع الحدود والهوية على أطلال التاريخ
الحرب المنسية بين كمبوديا وتايلاند تشتعل من جديد

لم تكن الحرب بين كمبوديا وتايلاند في بداية الألفية الثالثة حربًا تقليدية بالمعنى الكامل، لكنها كانت كافية لتسفك دماء وتدمر قرى وتهجّر مئات من المدنيين.

في قلب النزاع يقع معبد "بريا فيهير" (Preah Vihear) القديم، وهو رمز ديني وتاريخي تحوّل إلى ساحة صراع قومي وسياسي بين دولتين تتقاطع فيهما المصالح والسيادة والهوية.
خلفية النزاع
يمتد النزاع الحدودي بين كمبوديا وتايلاند لعقود طويلة، ويعود جذوره إلى الاستعمار الفرنسي للمنطقة في أواخر القرن التاسع عشر. في عام 1904، تم ترسيم الحدود بين كمبوديا (التي كانت تحت الحماية الفرنسية) وسيام (الاسم القديم لتايلاند) من خلال اتفاقيات استعمارية لم تكن دقيقة دائمًا، ما خلق بؤر توتر متكررة.
معبد بريا فيهير، الذي يقع على قمة جبل دنجريك على الحدود بين البلدين، أصبح محور النزاع. رغم أنه يقع جغرافيًا على أراضٍ صخرية صعبة الوصول من الجانب الكمبودي، إلا أن التايلانديين يعتبرونه جزءًا من تراثهم الثقافي والتاريخي.
في عام 1962، أصدرت محكمة العدل الدولية حكمًا يقضي بأن المعبد يقع ضمن السيادة الكمبودية، ما أثار غضب تايلاند، التي استمرت في المطالبة به ضمنيًا. ولم تهدأ الأوضاع بشكل كامل منذ ذلك الحين، بل ازدادت توترًا بعد إدراج المعبد ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو في عام 2008، بطلب من كمبوديا.

تفجر النزاع: 2008–2011
مع إدراج معبد بريا فيهير كموقع تراث عالمي، اندلعت الاحتجاجات داخل تايلاند، حيث اتهم القوميون الحكومة بالتنازل عن السيادة. على الأرض، تحركت القوات التايلاندية نحو المناطق الحدودية، وردّت كمبوديا بتعزيز مواقعها. اندلع أول اشتباك دموي في يوليو 2008، وأسفر عن مقتل جنود من الجانبين وسقوط جرحى، إلى جانب إخلاء السكان المحليين.
تكررت الاشتباكات المسلحة في فترات متقطعة، أبرزها في فبراير وأبريل 2011، حيث استخدمت المدفعية الثقيلة والأسلحة الرشاشة، واستُهدفت البنية التحتية والقرى القريبة من خط النار. قدرت منظمات حقوقية أن أكثر من 85,000 شخص قد تم تهجيرهم بسبب القتال.

انفجار لغم يشعل صراعا بين كمبوديا وتايلاند من جديد
أسقطت مقاتلات تايلاندية، الخميس، قنابل على أهداف عسكرية كمبودية على طول حدودهما المتنازع عليها، حيث أسفرت اشتباكات مسلحة بين الجارتين الواقعتين في جنوب شرق آسيا عن مقتل 11 مدنيا على الأقل، في تصعيد حاد للتوترات يهدد بتحولها إلى صراع أوسع نطاقا.
وتأتي أعمال العنف بعد يوم من فقدان جندي تايلاندي ساقه في انفجار لغم أرضي، وهو الحادث الذي أدى إلى تدهور العلاقات بين بانكوك وبنوم بنه إلى أدنى مستوى لها منذ سنوات. ومنذ ذلك الحين، أغلقت تايلاند جميع المعابر الحدودية مع كمبوديا.
وأعلنت القيادة العسكرية الإقليمية الثانية في تايلاند في شمال شرق البلاد، في منشور على فيسبوك، أنه تم نشر طائرات مقاتلة من طراز F-16. كما زعمت أنها "دمرت" وحدتي دعم عسكريتين إقليميتين لكمبوديا.
وقال نائب المتحدث باسم الجيش التايلاندي، العقيد ريشا سوكسوانونت، إن الضربات طالت أهدافا عسكرية فقط.
ومن جانبها، أكدت وزارة الدفاع الكمبودية في بيان، أن طائرة مقاتلة تايلاندية من طراز F-16 أسقطت قنبلتين على طريق بالقرب من معبد برياه فيهير القديم، وهو أحد مواقع التراث العالمي لليونسكو. وأدانت ما أسمته بـ"العدوان العسكري الوحشي والهمجي والعنيف"، واتهمت تايلاند بانتهاك القانون الدولي.

وأكد البيان أن "كمبوديا تحتفظ بالحق المشروع في الدفاع عن النفس، وسترد بشكل حاسم على العدوان التايلاندي العنيف"، وأضاف أن القوات المسلحة "على أهبة الاستعداد للدفاع عن سيادة المملكة وشعبها- مهما كان الثمن".
وبحسب مسؤولين عسكريين، اندلعت اشتباكات مسلحة بين القوات التايلاندية والكمبودية في 6 مواقع على طول الحدود المتنازع عليها في وقت سابق، الخميس، مما أدى إلى سقوط ضحايا مدنيين ودفع إلى إجلاء السكان في تايلاند.
وأعلنت الشرطة التايلاندية ووزارة الصحة مقتل 11 مدنيا على الأقل في هجمات كمبودية على تايلاند، الخميس
الأبعاد السياسية للنزاع
لم يكن النزاع العسكري فقط نتيجة لخلاف حدودي، بل تغذّى من أزمات سياسية داخلية لدى الجانبين. ففي تايلاند، كانت البلاد تمر بأزمة سياسية حادة بين “القمصان الحمر” و”القمصان الصفر”، واستُخدم الصراع الحدودي كوسيلة لصرف الانتباه وتوحيد الرأي العام حول قضية قومية. بالمقابل، وجد رئيس الوزراء الكمبودي هون سين في النزاع فرصة لتعزيز موقفه الداخلي وإظهار حزم الحكومة في حماية السيادة الوطنية.
التدويل والتدخل الدولي
بعد التصعيد الكبير عام 2011، تقدمت كمبوديا بشكوى رسمية إلى محكمة العدل الدولية تطلب فيها تفسيرًا لحكم 1962، خصوصًا بشأن المنطقة المحيطة بالمعبد، والتي ظلت محل خلاف. كما تم اللجوء إلى رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) للتوسط واحتواء التصعيد، وهي خطوة نادرة في العلاقات الثنائية.
في نوفمبر 2013، أصدرت محكمة العدل الدولية قرارًا تفسيريًا أكدت فيه أن الأراضي المحيطة بالمعبد تعود إلى كمبوديا، داعية تايلاند إلى سحب قواتها من المنطقة. ورغم قبول الحكم، استمر التوتر لفترة قبل أن تُعاد العلاقات تدريجيًا إلى طبيعتها في ظل حكومات جديدة في كلا البلدين.

الأثر الإنساني والاقتصادي
كحال معظم النزاعات الحدودية، كان المدنيون هم الضحايا الأساسيون. فقد نزح الآلاف من قراهم، وتعرضت المدارس والمنازل والمزارع للدمار. كما تعطلت الأنشطة الاقتصادية، خصوصًا الزراعة والسياحة، في المناطق الحدودية التي كانت تعتمد على الحركة التجارية بين الجانبين.
تم نشر تقارير توثق استخدام الألغام الأرضية والقنابل العنقودية، مما أثار قلق المنظمات الحقوقية والإنسانية. كما تم الإبلاغ عن انتهاكات لحقوق الإنسان، مثل احتجاز مدنيين واستخدام المدارس كمواقع عسكرية.
المصالحة والواقع الحالي
منذ منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، شهدت العلاقات بين كمبوديا وتايلاند تحسنًا نسبيًا. عزز البلدان التعاون التجاري والأمني، وجرى وضع آليات اتصال عسكري مباشر لمنع أي تصعيد غير محسوب. كما زار مسؤولون من البلدين معبد بريا فيهير في مبادرات رمزية للمصالحة.
رغم ذلك، لا تزال المسألة الحدودية غير محلولة بالكامل، إذ لم يتم ترسيم جميع النقاط الخلافية، ولا تزال هناك مناطق "رمادية" تخضع لمراقبة عسكرية مشددة.
تمثل الحرب بين كمبوديا وتايلاند واحدة من أكثر النزاعات الحدودية تعقيدًا في جنوب شرق آسيا، حيث تتداخل الجغرافيا مع التاريخ والسياسة مع القومية. ورغم أن النار قد خمدت، إلا أن الجذور ما زالت تحت الرماد. ولعل الدرس الأبرز من هذا النزاع أن الحوار، وليس القوة، هو السبيل الوحيد لتسوية القضايا العالقة بين الدول، لا سيما عندما يكون التاريخ مشتركًا، والشعوب جيرانًا، والمستقبل مرهونًا بالتعايش لا بالمواجهة.