انسحاب تحالف الساحل من "أوموا".. تصدع جديد يهدد تماسك غرب إفريقيا

في خطوة تعكس عمق الانقسامات داخل المنظومات الإقليمية لغرب إفريقيا، أعلنت دول تحالف الساحل الثلاث – مالي، النيجر، وبوركينا فاسو – انسحابها من الدورة العادية الثانية لمجلس وزراء الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب إفريقيا "أوموا"، التي عُقدت في 13 يوليو 2025، في تصعيد جديد يؤشر على اختلال العلاقة بين هذه الدول والمؤسسات الإقليمية التقليدية التي كانت تشكّل الإطار السياسي والاقتصادي الموحد للمنطقة منذ عقود.

القرار جاء بعد فشل المشاركين في الاجتماع في التوصل إلى توافق حول تسلُّم بوركينا فاسو رئاسة المجلس، رغم أحقيتها القانونية بذلك، وهو ما اعتبرته الدول الثلاث انتهاكًا مباشرًا لبنود المعاهدة التأسيسية للاتحاد، خاصة المادة 11 التي تكرّس مبدأ التناوب في قيادة المجلس بين الدول الأعضاء. وقد أدى هذا التوتر الظاهر إلى انسحاب وفود دول الساحل، في مشهد يحمل دلالات أعمق من مجرد خلاف على منصب.
خلفية القرار: بين الشعور بالتهميش ورفض الهيمنة
انسحاب دول الساحل من "أوموا" لا يمكن فصله عن السياق السياسي الأوسع الذي تمر به المنطقة منذ عام 2021، والذي شهد صعود أنظمة انتقالية جديدة في مالي وبوركينا فاسو والنيجر إثر انقلابات عسكرية متتالية.
هذه الحكومات، التي وُوجهت بعقوبات اقتصادية وعزلة دبلوماسية من قِبل المنظمات الإقليمية مثل "إيكواس" و"أوموا"، بدأت منذ مطلع 2024 في بلورة تحالف سياسي واقتصادي جديد عُرف باسم "تحالف دول الساحل"، كمحاولة لإعادة تشكيل قواعد اللعبة الإقليمية من منظورها الخاص.
وقد سبق أن أعلنت الدول الثلاث انسحابها رسميًا من "إيكواس" في يناير 2024، بحجة عدم انسجامها مع مواقف المنظمة التي اتسمت بالعداء تجاه الأنظمة الانتقالية، وتجاهل تعقيدات الواقع الأمني الذي تعيشه هذه الدول، خصوصًا مع تصاعد تهديدات الجماعات المسلحة في منطقة الساحل والصحراء.

انتهاك التناوب: القشة التي قصمت ظهر الثقة
السبب المباشر وراء الانسحاب الأخير يتمثل في اعتراض بعض الدول الأعضاء داخل "أوموا" على تولي بوركينا فاسو رئاسة مجلس وزراء المنظمة، رغم أن المعاهدة تُلزم الدول بتطبيق مبدأ التناوب الدوري على هذا المنصب.
هذا الرفض، وفق ما جاء في بيان صادر عن دول الساحل، عكس عقلية "الإقصاء السياسي" وعدم الاعتراف الكامل بمكانتها داخل المنظومة، ما دفعها إلى اتخاذ قرار الانسحاب كخطوة احتجاجية تحمل طابعًا سياديًا ورسالة سياسية واضحة.
من منظور تحالف الساحل، لم يعد مقبولًا أن تبقى هذه الدول جزءًا من هياكل إقليمية لا تُعاملها على قدم المساواة، وتُمارس ضدها نوعًا من الضغط المستمر دون تقديم حلول عملية أو دعم ملموس في مواجهة الأزمات الداخلية المعقدة.

"تحالف الساحل": كيان بديل أم مشروع تمرد مؤسسي؟
منذ تأسيسه، سعى "تحالف دول الساحل" إلى تقديم نفسه كمنصة إقليمية جديدة ذات رؤية مختلفة، تنأى بنفسها عن التبعية التقليدية للغرب وفرنسا تحديدًا، وتُروّج لخطاب سيادي يقوم على الاستقلالية في اتخاذ القرار السياسي والاقتصادي.
انسحاب الدول الثلاث من أوموا لا يُعد سوى خطوة جديدة ضمن هذا المسار، الهادف إلى فكّ الارتباط التدريجي بالمؤسسات التي يُنظر إليها على أنها أدوات للنفوذ الخارجي.
ويأتي هذا المسار مدفوعًا برغبة متزايدة لدى هذه الدول في بناء شراكات استراتيجية بديلة مع قوى دولية صاعدة مثل روسيا وتركيا، وهو ما بدأت تجلياته تظهر في التعاون الأمني والعسكري، وتوقيع اتفاقيات اقتصادية وتجارية خارج الأطر التقليدية.

التداعيات: ما بعد الانسحاب
أولًا – زعزعة استقرار "أوموا"
الانسحاب من الدورة الوزارية يكشف هشاشة التماسك الداخلي للاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب إفريقيا، ويهدد بفقدان "أوموا" لمكانتها كمنصة جامعة في المنطقة. فمع استمرار التصعيد، بات سيناريو الانسحاب الكامل من المنظمة واردًا، الأمر الذي ستكون له تداعيات على الاتحاد الجمركي، وسوق العملة الموحدة، وحتى على حركة الاستثمارات والتجارة البينية في المنطقة.
ثانيًا – تصعيد المواجهة مع "الفرنك الإفريقي"
القرار يُمهّد أيضًا لمسار تصادمي مع العملة الموحدة "الفرنك الإفريقي"، التي تعد إحدى ركائز النفوذ الفرنسي في إفريقيا.
إذ ترى دول الساحل أن بقاءها ضمن منظومة ترتبط بالفرنك – المرتبط بدوره ببنك فرنسا – يتعارض مع توجهها السياسي الجديد القائم على تقليص الاعتماد على القوى الخارجية.
لذلك، فإن الانسحاب من "أوموا" قد يكون مقدمة لتأسيس نظام نقدي بديل، أو على الأقل، الانخراط في تجارب نقدية جديدة خارج مظلة الفرنك الإفريقي.

ثالثًا – ترسيخ الانقسام الجيوسياسي في غرب إفريقيا
قرار الانسحاب لا يحمل فقط أبعادًا اقتصادية، بل يؤكد أيضًا على تعمّق الشرخ السياسي في الإقليم. فغرب إفريقيا اليوم بات منقسمًا بوضوح إلى محورين، تقوده دول "تحالف الساحل" التي تتبنى رؤية راديكالية قائمة على القطع مع البنى الإقليمية القديمة، والثاني تمثله دول مثل نيجيريا وساحل العاج والسنغال التي ما زالت تلتزم بالمسار المؤسسي التقليدي.
هذا الانقسام يعكس تضاربًا في الرؤى والأولويات، خاصة في قضايا كالأمن الحدودي، مكافحة الإرهاب، والحوكمة الإقليمية.
ومع تباين المواقف من الشراكات الدولية أيضًا، يبدو أن هذا التوتر مرشح للتفاقم، خاصة إذا ما استمر تحالف الساحل في تطوير أدواته المؤسسية وتوسيع علاقاته مع قوى خارجية غير تقليدية.
نحو مشهد إقليمي جديد
في ضوء ما سبق، يمكن القول إن انسحاب دول الساحل من الدورة الوزارية لـ"أوموا" يمثل محطة فارقة في مسار إعادة تشكيل النظام الإقليمي في غرب إفريقيا.
فهو ليس مجرد احتجاج عابر، بل تجسيد لعملية تحوّل عميقة تنطلق من رفض التهميش والإقصاء، وتسعى لتأسيس قواعد لعبة جديدة في المنطقة.
ورغم أن هذا التوجه قد يفتح المجال لتجديد الرؤى وتوازنات القوى في إفريقيا، إلا أنه يحمل أيضًا في طياته مخاطر تعميق الفوضى، وتقويض العمل الجماعي، وإضعاف المؤسسات الإقليمية التي كانت – رغم كل عيوبها – تمثل أملًا في التعاون والتنمية المشتركة.
ومع تسارع خطوات تحالف الساحل نحو بناء كيان مستقل وفاعل، تبدو المنطقة مقبلة على مرحلة من الاصطفافات الجديدة، والتي قد تُعيد رسم الخريطة السياسية والاقتصادية لغرب إفريقيا لعقود قادمة.