عشائر البدو والدروز في السويداء.. نار التاريخ تحت رماد الحاضر

في مشهدٍ يعكس هشاشة التوازنات المحلية في الجنوب السوري، أعادت الاشتباكات الأخيرة التي اندلعت في محافظة السويداء إلى الواجهة واحدًا من أكثر الملفات حساسية في التركيبة المجتمعية السورية، العلاقة المتوترة والمركبة بين العشائر البدوية والطائفة الدرزية.

وبين روايات المظلومية التاريخية وحقائق الحاضر المتفجر، تقف المنطقة على حافة انقسام اجتماعي عميق يهدد الاستقرار الهش في الجنوب.
جذور التوتر: تاريخ من سوء الفهم والتهميش
منذ بدايات القرن العشرين، ارتبطت العلاقة بين البدو والدروز بسلسلة من الحوادث والنزاعات التي رسخت في الذاكرة الجماعية للطرفين.
الدروز، الذين استقروا في جبال السويداء منذ قرون، شكّلوا مجتمعًا منغلقًا نسبيًا اتسم بالتماسك والانضباط، بينما حافظ البدو على نمط حياة متنقل، يرتكز على الرعي والعيش في البوادي. هذا التباين في نمط الحياة أدى إلى تصادمات متكررة، غذّاها الانتماء الديني والسياسي والاقتصادي المختلف.
في خمسينيات القرن الماضي، جرت محاولات لتوطين البدو وإدماجهم قسرًا في أنماط الحياة القروية، الأمر الذي واجهوه بالرفض، ما ولّد مشاعر متراكمة من التهميش والإقصاء لا تزال آثارها حاضرة حتى اليوم.
وفي المقابل، ظلّت الطائفة الدرزية تعتبر نفسها هدفًا دائمًا للتهديد، سواء من قوى إسلامية متطرفة أو من أطراف محلية تحاول كسر طوق سيطرتها على جبل العرب.

الحاضر الاقتصادي يؤجج نار الماضي
شهدت محافظة السويداء خلال السنوات الأخيرة تدهورًا اقتصاديًا غير مسبوق. ووسط انهيار العملة السورية وغياب الدعم الحكومي، أصبح الجنوب السوري بيئة خصبة للانفجارات الاجتماعية، لا سيما مع تفشي البطالة ونقص الخدمات.
في هذا السياق، يرى مراقبون أن التوتر بين البدو والدروز ليس مجرد خلاف قبلي أو طائفي، بل انعكاس لانفجار اجتماعي أوسع يغذيه غياب الدولة من جهة، وهيمنة مجموعات مسلحة محلية من جهة أخرى.
ومع انتشار السلاح وغياب سلطة مركزية فاعلة، أصبحت الحساسيات القديمة ذريعة سهلة لتصفية الحسابات.

روايات متضاربة... والحقيقة ضائعة
الاشتباكات الأخيرة، التي أودت بحياة عدد من أبناء العشائر البدوية وسكان محليين من الطائفة الدرزية، أظهرت مدى التباين في الرواية حول ما حدث.
فبينما تؤكد بعض المصادر المحلية أن الحادث بدأ بعد ملاحقة جماعة مسلحة لشاب من البدو بتهمة السرقة، تقول مصادر أخرى إنّ ما جرى كان كمينًا أمنيًا مدبّرًا، تسبّب في سقوط ضحايا من دون أي مسوّغ.
الجهات الأمنية السورية اكتفت بتصريحات مقتضبة تمحورت حول "فرض هيبة الدولة" و"التصدي للفوضى"، لكن تلك اللغة لم تلقَ قبولًا لدى الكثير من أبناء المحافظة، الذين يرون أن السلطة تعمّدت اللعب على التناقضات الاجتماعية لإضعاف أي حركة احتجاجية منظمة، خصوصًا بعد اتساع رقعة المطالبات بالإصلاح في السويداء خلال العام الماضي.

خبراء: نحتاج حلاً سياسيًا – اجتماعيًا
يرى الباحث في الشؤون السورية، الدكتور سامر الخطيب، أن ما تشهده السويداء هو نتيجة طبيعية لتراكمات من الإقصاء السياسي والاجتماعي على مستوى البلاد بأكملها، لكنه يأخذ طابعًا أكثر حدة في المناطق ذات التكوين الطائفي أو العشائري.
ويقول الخطيب في حديثه :-
"العشائر البدوية تنظر إلى نفسها كمكون مُهمّش ومُستثنى من المعادلة السياسية، ويشعر كثيرون منهم أنهم مواطنون من الدرجة الثانية، سواء في الحقوق أو التمثيل.
أما المجتمع الدرزي، فيعيش هاجس البقاء، ويُفسّر أي اختراق أمني أو اجتماعي على أنه تهديد وجودي".
وأضاف "الحل لا يمكن أن يكون أمنيًا فقط. نحن بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد يُعيد توزيع الثقة، ويفتح باب الشراكة المتوازنة بين المكونات المحلية".
الدولة بين "السيادة" والواقع المعقد
تُصرّ الحكومة السورية على أنها تمارس حقها المشروع في "فرض الأمن وبسط السيادة"، لكن في بيئة مثل السويداء، حيث ترتبط الولاءات بالبنية الاجتماعية والروابط التاريخية، فإن أي تدخل أمني من دون شراكة مجتمعية قد يؤدي إلى نتائج عكسية. ولعلّ تجربة السنوات الماضية، من الاحتجاجات الشعبية إلى تفجّر العنف، تثبت أن المقاربة الأمنية وحدها لم تعد مجدية.
تكتل درزي مقابل سيولة بدوية؟
اللافت أن الطائفة الدرزية، رغم ما تعانيه من تحديات اقتصادية وأمنية، لا تزال تمتلك بنية تنظيمية ومجتمعية متماسكة، تُدار من خلال المرجعيات الدينية والزعامات المحلية.
في المقابل، يعاني البدو من تشتت في القيادة وغياب كيان موحّد يمثّلهم، مما يجعلهم عرضة للاختراق والاتهام بالانفلات الأمني.
هذا التفاوت في البنية التنظيمية قد يكون أحد أسباب الفجوة المتنامية بين الطرفين، حيث يشعر الدروز بالقدرة على "ضبط الإيقاع" في مناطقهم، بينما يُنظر إلى البدو كمصدر "للانفلات والتهديد".
ما بعد الاشتباكات: فرص للتهدئة أم جولات جديدة؟
حتى الآن، لم تثمر الدعوات إلى التهدئة عن نتائج ملموسة. ورغم محاولات بعض الوجهاء والفعاليات الدينية والاجتماعية التدخل لاحتواء الموقف، فإن الخوف من تجدد الصدام يخيّم على الأجواء.
ومع كل ذلك، يرى البعض أن في الأزمة فرصة لإعادة فتح ملفات المصالحة المجتمعية، بشرط توافر الإرادة السياسية، ودخول وسطاء محليين يمتلكون الثقة من الطرفين.

في وقتٍ تشهد فيه سوريا إعادة رسم لخرائط النفوذ والتحالفات، يبدو الجنوب السوري أمام لحظة اختبار حقيقية.
فإما تُفتح قنوات حوار تُعيد الثقة بين المكونات المحلية وتضع حدًا لمسلسل المظلومية المتبادلة، أو يظل الجرح مفتوحًا، ينزف عند كل احتكاك جديد.