تأجيل "الضم" لا يلغي المخطط
إسرائيل تُمهّد لتهجير صامت في الضفة تمهيدًا لفرض السيادة

في خطوة أثارت جدلاً واسعًا في الأوساط السياسية والإعلامية، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تأجيل مناقشة مشروع قانون "فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية" إلى ما بعد انتهاء عطلة الكنيست الصيفية، دون تحديد موعد دقيق لإعادة الطرح.

ورغم أن القرار جاء في سياق اعتبارات داخلية، إلا أن المراقبين اعتبروا التأجيل مناورة سياسية لا تعني التخلي عن المخطط بقدر ما تعكس تغيرًا في أدوات التنفيذ وتوقيته، في ظل معطيات إقليمية ودولية معقدة.
تهجير بلا إعلان
مصادر سياسية إسرائيلية وفلسطينية متطابقة تحدثت عن وجود خطة إسرائيلية "صامتة" للضم التدريجي لأجزاء واسعة من الضفة الغربية، ولكن بعيدًا عن الأطر التشريعية المعلنة، لتفادي ردود الفعل الدولية.
ووفقًا لتقارير فلسطينية، فقد شهدت الشهور الستة الأولى من عام 2025 ارتفاعًا غير مسبوق في وتيرة الاستيطان بنسبة تجاوزت 30% مقارنة بالفترة ذاتها من العام السابق، مع تركّز خاص في المناطق المصنفة "ج"، التي تخضع لسيطرة أمنية وإدارية إسرائيلية كاملة وتمثل قرابة 60% من مساحة الضفة.
هذا التوسع الاستيطاني جاء متزامنًا مع موجة متصاعدة من عمليات مصادرة الأراضي، وإغلاق الطرق الزراعية، ومنع الفلسطينيين من الوصول إلى أراضيهم، ما يطرح تساؤلات جدية حول نوايا تل أبيب بإحداث تغييرات ديمغرافية وجغرافية تسبق إعلان الضم الرسمي.

ذكاء اصطناعي لرسم خرائط الضم
مصادر داخل أجهزة الأمن الإسرائيلية كشفت لوسائل إعلام عبرية أن وزارة الدفاع شرعت في استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لرسم خرائط تفصيلية تحدد ما تسميه "مناطق الضعف السكاني" في الضفة الغربية، حيث يتم تحليل الكثافة السكانية والنشاطات السياسية والأمنية للفلسطينيين في تلك المناطق، بغرض تصميم خطة ضم مرنة وموجهة.
وتشير التقارير إلى أن هذه الخرائط تشمل مدنًا رئيسية مثل جنين ونابلس وطولكرم، وتحدد أحياء بعينها مرشحة للإخلاء التدريجي، من خلال التضييق الاقتصادي والأمني، بما يشبه "تهجيرًا ناعمًا" لا يصطدم بالمعايير الدولية علنًا.
واشنطن في الصورة ودعم مشروط
بحسب محللين سياسيين، فإن التأجيل لا يعني بالضرورة وجود خلاف بين تل أبيب وواشنطن، بل قد يكون جزءًا من تفاهمات سرية تم التوصل إليها خلال زيارة نتنياهو الأخيرة للعاصمة الأمريكية، والتي بحث خلالها ملف الضفة ضمن حزمة ملفات تتعلق بالحرب على غزة والتصعيد في الشمال مع حزب الله.
ويرى هؤلاء أن إدارة الرئيس الأمريكي قدمت ضوءًا أخضر غير مباشر لتنفيذ ضم تدريجي مشروط بوقف العمليات العسكرية في غزة، وربما بتهدئة على الجبهة الشمالية مع لبنان، مقابل مساعدات مالية إضافية ودعم عسكري نوعي لإسرائيل.
تهجير صامت وتطهير ديمغرافي ممنهج
على الأرض، بدأت تتكشف ملامح ما يصفه الحقوقيون بـ"التهجير القسري غير المعلن".
فإلى جانب العمليات العسكرية التي شهدتها جنين وطولكرم أخيرًا، سُجلت عشرات الحالات من الإجلاء القسري للعائلات، سواء تحت ذريعة العمليات الأمنية أو بفعل قطع المياه والكهرباء والخدمات الأساسية.
كما لوحظ تصاعد ملحوظ في إجراءات الإغلاق والحصار في بعض البلدات والقرى، بما في ذلك منع إدخال مواد البناء والوقود، مما يؤدي إلى خلق بيئة طاردة للسكان، في سياق ما وصفته منظمات دولية بأنه "تطهير ديمغرافي مقنّع".
وتعزز هذه الإجراءات الشكوك حول وجود سياسة إسرائيلية ممنهجة لتفريغ بعض مناطق الضفة الغربية من سكانها الفلسطينيين، تمهيدًا لضمها لاحقًا دون تكاليف سياسية وأمنية عالية.
توقيت استراتيجي لا تراجع تكتيكي
المحلل السياسي الإسرائيلي آري شافيت أشار في مقال بصحيفة "هآرتس" إلى أن تأجيل طرح قانون الضم لا يعكس تراجعًا عن الخطة بقدر ما يعكس حرص الحكومة على تنفيذها بطريقة "هادئة ومدروسة"، بحيث لا تثير عاصفة سياسية داخلية ولا مواجهة مباشرة مع المجتمع الدولي.
وأضاف أن إسرائيل تعلّمت من تجارب سابقة أن الإعلان العلني عن الضم قد يؤدي إلى عزلة دولية وعقوبات محتملة، ولذلك لجأت إلى استراتيجية "الضم بدون إعلان"، أي فرض الأمر الواقع من خلال الاستيطان والتهجير، ثم تأتي الخطوة القانونية كتحصيل حاصل.
المقاومة الفلسطينية: "الضفة ليست غزة"
في المقابل، تؤكد فصائل فلسطينية أن ما يجري في الضفة لن يمرّ دون رد.
وقالت حركة حماس في بيان صدر مؤخرًا إن "الضفة الغربية ليست ساحة مفتوحة أمام مشاريع الضم والتهجير"، معتبرة أن المقاومة ستتوسع ردًا على هذه السياسات.
كما دعا قادة من الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية إلى "انتفاضة شاملة" في وجه مشروع التهجير والضم، وسط تنامي التنسيق بين الفصائل في الضفة وغزة لمواجهة ما يعتبرونه أخطر مراحل المشروع الصهيوني منذ النكسة.
تأجيل لا يلغي الخطر
الوقائع على الأرض، والمجريات السياسية في الكواليس، تشير بوضوح إلى أن قرار تأجيل قانون "السيادة الإسرائيلية" في الضفة لا يعني التخلي عنه، بل ربما يمهد لتمريره بوسائل جديدة وأكثر دهاءً.
فبين التهجير الصامت، والاستيطان المتسارع، والدعم الأمريكي المشروط، تمضي إسرائيل بخطى ثابتة نحو تغيير جذري في الضفة، قد لا يُعلن على الورق، لكنه يُنفذ بقوة الأمر الواقع.
وفي غياب تحرك فلسطيني موحد، وضغط دولي فعّال، تبقى الضفة مهددة بتكرار سيناريو النكبة، ولكن هذه المرة بآليات أكثر تطورًا وهدوءًا ودعم امريكي لا محدود.