"محاكمة نتنياهو" بين اتهامات الفساد والمناورات السياسية هل يخضع للمساءلة؟

تتجه الأنظار من جديد إلى أروقة القضاء الإسرائيلي، حيث لا تزال محاكمة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تثير جدلاً واسعاً داخل إسرائيل وخارجها.
فالرجل الذي شغل منصب رئاسة الحكومة لفترات هي الأطول في تاريخ الدولة العبرية، يواجه تهم فساد خطيرة تهدد مستقبله السياسي، وتعيد طرح تساؤلات عن مدى قدرة الدولة الإسرائيلية على الفصل بين السلطات وسط حالة استقطاب داخلي غير مسبوقة.
تفاصيل القضايا المرفوعة ضد نتنياهو
تُحاكم نتنياهو في ثلاث قضايا رئيسية يُشار إليها إعلامياً بالملف 1000، والملف 2000، والملف 4000:
الملف 1000: يُتهم فيه نتنياهو بتلقي هدايا فاخرة، مثل السيجار وزجاجات الشمبانيا والمجوهرات، من رجال أعمال أثرياء، أبرزهم أرنون ميلتشين، مقابل خدمات وتسهيلات.
الملف 2000: يتعلق بمفاوضات جرت بين نتنياهو وناشر صحيفة "يديعوت أحرونوت"، أرنون موزيس، حول تحسين تغطية الصحيفة لصالح نتنياهو مقابل التضييق على صحيفة منافسة (يسرائيل هيوم) الموالية له.
الملف 4000: وهو الأخطر، ويتعلق بمنح نتنياهو تسهيلات تنظيمية وقرارات لصالح شركة الاتصالات العملاقة "بيزك"، مقابل تغطية إعلامية إيجابية في موقع "واللا" الإخباري التابع للشركة. وتُعد هذه القضية الوحيدة التي يُتهم فيها نتنياهو بالرشوة، وهي تهمة عقوبتها قد تصل إلى السجن لمدة عشر سنوات.

المسار القضائي وتعقيداته
بدأت محاكمة نتنياهو فعليًا في عام 2020، لكنها تتقدم ببطء شديد بسبب المناورات القانونية، والطعون، وتغيير الشهود، إضافة إلى الأوضاع السياسية غير المستقرة التي تمر بها إسرائيل. ففي أكثر من مناسبة، اتُّهم نتنياهو باستغلال موقعه السياسي لتعطيل المحاكمة أو تأخيرها، من خلال تشكيل ائتلافات حكومية تُشرّع قوانين لحمايته.
وبالرغم من أن القضاة أصروا على استمرارية الجلسات، فإن دفاع نتنياهو يسعى بكل الطرق القانونية إلى إضعاف الشهادات، الطعن في الأدلة، وإثارة الشكوك حول دوافع النيابة العامة.
انتقادات في إسرائيل لدعوة ترمب إلى إلغاء محاكمةنتنياهو
رفضت محكمة إسرائيلية، (الجمعة)، طلب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، تأجيل جلسات محاكمته بتهم فساد خلال الأسبوعين المقبلين نتيجة انشغاله في قضايا إقليمية كبيرة.
وجاء ذلك في وقت رأت وسائل إعلام إسرائيلية أن القنبلة التي فجّرها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، عندما طالب بإلغاء «المحاكمة السخيفة على بعض السيجار والشمبانيا» التي يتعرض لها نتنياهو، يمكن أن ترتد على رئيس الوزراء وتورطه في قضية فساد أخرى. إذ إن ترمب، مهما كان صديقاً وحليفاً وكانت نياته طيبة إزاء نتنياهو، يظل رئيس دولة أجنبية.

وبحسب القانون الإسرائيلي، لا يجوز لمنتخب من الجمهور في إسرائيل أن يتلقى دعماً في مواجهة المحكمة، خصوصاً إذا كانت لدى الجهة الداعمة أو لدى بلادها مصالح في إسرائيل. وبالتالي فإن هذا التدخل يمكن أن يصبح نوعاً من الرشوة.
وقد خرجت وسائل الإعلام في الدولة العبرية تفسّر لترمب هذا القانون وتشرح له تفاصيل محاكمة نتنياهو وأنها ليست مسألة سيجار وشمبانيا فحسب، بل مسألة تلقي الرشى والاحتيال وخيانة الأمانة في قضايا كبيرة.
ولم يخل هذا التفسير من تهكم، من خلال القول مثلاً إن شخصاً لا يمانع في تلقي هدايا بمئات ملايين الدولات «لن يفهم خطورة أن يتلقى رئيس حكومة في إسرائيل بضعة مئات ألوف الدولارات.
لكن القانون الإسرائيلي السائد في إسرائيل تسنّه الكنيست وليس تغريدة في الشبكات الاجتماعية».
وأشارت وسائل إعلام إلى أن ترمب لم يطلق هذه المبادرة من خاطره، بل هناك من طلب منه ذلك، في تلميح إلى جهات تدعم نتنياهو.
وكتبت صحيفة «هآرتس» في مقال افتتاحي، اليوم الجمعة: «لقد أخطأ ترمب حين قرر التدخل في هذا الموضوع، سواء لأن في ذلك ما يضعف جهاز إنفاذ القانون الإسرائيلي ويعمّق الاستقطاب، أو لأن تدخله الفظّ يرسم صورة إسرائيل دولة تابعة للولايات المتحدة. صحيح أنه استجاب لطلب الحكومة حين أعطى ضوءاً أخضر لهجوم على منشآت إيران النووية، بعث بقاذفات سلاح الجو الأميركي كي يساعد في الهجوم، بل وأوقف الحرب تجاه إيران في الوقت المناسب. كما أنه يعمل من خلال مبعوثه ستيف ويتكوف من أجل تحرير المخطوفين من غزة. لكن يجدر به أن يرفع يديه عن مسألة محاكمة نتنياهو، ويركز على مهمة أخرى حددها لنفسه، إنهاء الحروب».
وأضافت: «نتنياهو يُحاكم على سلسلة اتهامات خطيرة عليه أن يقدّم الحساب عليها. فهو ليس فوق الشعب ولا يستحق (تنزيلات إيران) أو (تنزيلات ترمب). لقد قال المرة تلو الأخرى، إنه: (لم يكن شيء ولا يوجد شيء). والآن على المحكمة، وعليها فقط، أن تحسم إذا كان بريئاً فعلاً أم هو مذنب».

هل سيخضع نتنياهو فعلاً للمساءلة؟
يثير هذا السؤال تساؤلات الشارع الإسرائيلي والمراقبين الدوليين على حد سواء، من الناحية القانونية، لا يوجد ما يمنع استمرار نتنياهو في رئاسة الحكومة أثناء محاكمته، وهذا ما يمنحه قوة ونفوذًا سياسيًا يستطيع عبرهما المناورة.
لكن من الناحية الأخلاقية والسياسية، فإن المحاكمة تُلقي بظلالها الثقيلة على شرعيته، فشعبيته تأثرت، وإن كان لا يزال يحتفظ بقواعد جماهيرية واسعة، خصوصاً في أوساط اليمين المتشدد والمستوطنين، الذين يرون فيه درعاً في مواجهة المؤسسة القضائية التي يعتقدون أنها منحازة لليسار.
العديد من المحللين يرون أن نتنياهو قد يسعى، في نهاية المطاف، إلى صفقة مع الادعاء العام. وقد ظهرت بالفعل بعض المؤشرات إلى ذلك، حيث جرت محادثات غير رسمية في الكواليس حول إمكانية اعترافه بجنح أخف مقابل إسقاط تهمة الرشوة وابتعاده عن الحياة السياسية لفترة محددة.
السياق السياسي وتأثيره على المحاكمة
لا يمكن فصل محاكمة نتنياهو عن السياق السياسي الإسرائيلي المتقلب. فقد جاءت المحاكمة في وقت تشهد فيه البلاد حالة من الاستقطاب السياسي الحاد، والتظاهرات الأسبوعية المعارضة للحكومة، إلى جانب احتجاجات واسعة ضد خطة "إصلاح القضاء" التي يسعى نتنياهو وفريقه الحكومي إلى تمريرها.
وترى المعارضة أن تلك الخطة تهدف بشكل أساسي إلى تقويض استقلالية القضاء، وتفكيك منظومة الرقابة على السلطة التنفيذية، بما في ذلك تعطيل المحاكمة نفسها. وقد صرّح بعض قادة المعارضة أن "نتنياهو يسعى لكتابة قوانين تضمن براءته بدلاً من الدفاع عنها في المحكمة".

ردود الفعل الدولية
أثارت المحاكمة ردود فعل دولية متفاوتة. ففي حين التزمت الولايات المتحدة الصمت الحذر احتراماً لـ"استقلالية القضاء الإسرائيلي"، فإن بعض المنظمات الحقوقية الدولية عبّرت عن قلقها إزاء التدخل السياسي المحتمل في مجريات العدالة. كما استخدمت بعض الأطراف في المنطقة العربية والإقليمية القضية كدليل على "تفكك المنظومة السياسية في إسرائيل" و"فساد قادتها".
بنيامين نتنياهو، الزعيم المخضرم الذي يوصف بـ"الناجي الأكبر" من أزمات سياسية متكررة، يواجه الآن اختبارًا وجوديًا حقيقيًا: إما أن يثبت القضاء الإسرائيلي قدرته على محاسبة حتى أعلى مسؤول في الدولة، أو أن ينتصر نتنياهو مجددًا عبر تحالفاته السياسية ومناوراته القانونية.
ورغم أن الحكم النهائي في قضاياه قد يستغرق سنوات، فإن مصير إسرائيل السياسي، ومكانة القضاء فيها، ومستقبل الديمقراطية، كلها باتت رهينة لنتائج محاكمته. فإما أن تكون سابقة قانونية تثبت استقلال القضاء، أو تُسجل كنقطة سوداء في تاريخ العدالة الإسرائيلية.