مجلس التحرير: مجموعة صحفيين عرب
الموقع قدم أوراق اعتماده
الى نقابة الصحفيين العراقيين

د. ياسر عبد العزيز يكتب: «كيف يُعيد ترمب تعريف الإعلام السياسي؟»

نشر
د. ياسر عبد العزيز
د. ياسر عبد العزيز

لا يبدو أن الصدع الكبير في العلاقة بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب من جهة، ومعظم الكيان الإعلامي الأميركي من جهة أخرى، في طريقه إلى الالتئام؛ بل يبدو أنه ينحو إلى الاتساع يوماً بعد يوم.

من يتابع تعليقات ترمب على أداء المؤسسات الإعلامية الرئيسة، في بلاده، والأوصاف التي يطلقها على بعض الإعلاميين، يعرف أن ما يجمع الجانبين سوء تفاهم مُقِيم وعداء منهجي. ومن جانبها، فإن بعض تلك الوسائل باتت تتراجع، وتُعيد حساباتها، تحت وطأة الضغوط التي تتعرض لها.

يقودنا هذا إلى حالة عداء مُستحكم بين الرئيس وعدد لا يُستهان به من وسائل الإعلام الرئيسة في مجتمعه، وهي حالة قد يتشارك الجانبان قدراً من المسؤولية عنها، ولكنها لا يمكن أن تقع في حال كان الحكم مُنفتحاً ورشيداً.

والشاهد أن ترمب يريد أن يكرر ما فعله قادة سلطويون، عاشوا في عهود سابقة، إزاء المجال الإعلامي؛ إذ يخبرنا التاريخ بأن كثيراً من السياسيين الذين اعتقدوا بامتلاكهم «الحقيقة المطلقة» سعوا سعياً حثيثاً إلى تحويل وسائل الإعلام إلى «آلات دعاية»، تُلمِّع صورتهم، وتلطخ سمعة أعدائهم، وتعمل على نقل رؤاهم للجمهور من دون أي تدخل، فإن لم يتمكنوا من ذلك، فإنهم يشنون عليها الهجمات العنيفة، ويصفون الإعلام والعاملين فيه بأبشع الأوصاف.

وبالطبع، فإن حرية الإعلام تدفع أثماناً غالية لقاء تلك المحاولات، وهي أثمان تدفعها أيضاً الأوطان؛ لأن حرية الإعلام ليست منحة أو ميزة للإعلاميين، ولكنها «مصلحة عامة»، وهي أيضاً من المؤشرات الرئيسة التي تُصنَّف على أساسها المجتمعات لجهة الديمقراطية والتقدم، أو الديكتاتورية والتخلف.

وحين يسعى بعض القادة المُتسلِّطين إلى إخضاع المجال الإعلامي، أو تعقيمه في الحد الأدنى، حتى يصبح مجالاً مُواتياً لهم، فإنهم يصطدمون بالقوى الحية في هذا المجال، ويحاولون إخضاعها، باللين أو بالقوة، لتنفيذ مخططاتهم.

وعندما يشعر هؤلاء القادة بأن المجال الإعلامي يفرز ممارسات تعوق تلك المخططات، فإنهم يتحولون إلى شيطنته واستهدافه.

لا تختلف تلك السياسات عما فعله القادة المستبدون الذين عبروا في التاريخ، والذين حوَّلوا وسائل الإعلام في بلادهم إلى آلات تُردد معزوفات التأييد لهم، وتذم خصومهم، وتَحُط من شأنهم.

يحاول الرئيس الأميركي إعادة تعريف المجال الإعلامي في بلاده؛ بل وإعادة تعريف وظيفة الإعلام ذاتها، أو هذا على الأقل ما يبدو واضحاً حتى الآن.

فقد كتب الرئيس ترمب، يوم الجمعة الماضي، على حسابه في موقع «تروث سوشيال»، إن الصحافية ناتاشا برتراند التي تعمل في شبكة «سي إن إن»، يجب توبيخها، و«طردها كالكلب»، بداعي أنه شاهدها لمدة ثلاثة أيام تنشر «أخباراً مزيفة» عن نتائج الضربة الأميركية للمواقع النووية الإيرانية.

ولم يكتفِ الرئيس الغاضب بذلك؛ بل إنه وصف بيوتاً إعلامية مرموقة؛ مثل «نيويورك تايمز»، وغيرها، بأنها «حثالة»، وقد حدث ذلك رغم أن «سي إن إن» دافعت عن الصحافية ناتاشا أمام هجمات الرئيس، مؤكدة، في بيان رسمي، أن عملها استند إلى تقييم مهني صادر عن جهة استخباراتية.

ليست تلك بالطبع هي المحطة الأولى في الصراع العنيف الذي يتفاقم بين ترمب من جانب، ووسائل إعلام مؤسسية رئيسة في الولايات المتحدة من جانب آخر؛ بل هي إحدى هذه المحطات التي بدأها الرئيس مبكراً قبل فوزه في انتخابات 2016 التي حملته نتائجها إلى سدة الرئاسة في ولايته الأولى.

يريد ترمب أن يختزل الاتصال الرئاسي في صورة تدوينات يطلقها على منصة يمتلكها ويديرها بنفسه، ومن ثَم يقوض عمل منظومات الإعلام المؤسسي في هذا الشق الحيوي والخطير، ويفرغها من مضمونها.

وفي إطار سعيه لإعادة تعريف وظيفة الإعلام، يريد أن يجعل تلك الوظيفة مُقتصرة، في المجال السياسي، على ترديد كلامه، وتأكيد تصريحاته، والتصفيق لأفعاله، مهما كانت مُلتبسة أو مثيرة للجدل.

وعندما ستظهر أي مقاربات ناقدة لما يقوله ويفعله، فإنه سيسارع إلى وصف تلك المقاربات بأنها «خائنة»، و«مُضللة»، كما سيصف الصحافيين الذين ينقلونها بأنهم «كلاب يستحقون التوبيخ والطرد»، وأما وسائل الإعلام التي يعملون فيها، فليست سوى «حثالة».

سيفسر لنا هذا سيل الشتائم التي يوجهها الرئيس لصحافيين ووسائل إعلام بعينها، وسيشرح لنا أيضاً لماذا استهل ولايته الحالية برفع مجموعة من الدعاوى ضد وسائل إعلام رئيسة، بغرض إنهاكها، وتشتيتها، وحملها على الامتثال لإرادته، وتنفيذ أجندته.

يُعيد ترمب تعريف المجال الإعلامي الأميركي على نحو غير مسبوق في التاريخ، كما يُحدد مسار الاتصال السياسي الرئاسي في خط أحادي: من الرئيس إلى الجمهور وكفى، وهو أمر قد يأخذ هذا الإعلام إلى واقع مَأسَوي لم يكن يخطر ببال أكبر المتشائمين.

نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط