د. ياسر عبد العزيز يكتب: «قمة الإعلام العربي»... وسؤال الحريات

عشية فورة الانتفاضات العربية التي ضربت دولاً عديدة في المنطقة، في العقد الماضي، قادتني الظروف إلى المشاركة في الجهود البحثية والاستشارية، التي حشدتها منظمات دولية مرموقة، لكي تساعد إحدى الدول العربية في إنجاز مشروع قانون متقدم لحرية تداول المعلومات.
ولم تكن هناك عقبات كبيرة تُذكر أمام تحقيق الهدف، الذي توفرت له عوامل النجاح المختلفة، سواء كان هذا يتعلق بإرادة الحكومة المعنية، التي لم تمانع أبداً في وضع قانون متطور يتحلى بالكفاءة، ويتسق مع أرقى المعايير العالمية في هذا الصدد، أو بالباحثين الأجانب والوطنيين، الذين شاركوا بشغف في إنجاز الهدف المُراد.
وكانت الأنباء الطيبة، أن القانون تم إنجازه، وحظي برضا محلي ودولي أيضاً، وقامت الحكومة بتفعيله بعد إقراره برلمانياً، لكن الأنباء السيئة تمثلت ببساطة في أن هذا القانون الجيد لم يجد معلومات لكي يتيحها؛ إذ كانت الدولة على وشك الانهيار، وهو الأمر الذي حدث بالفعل تحت ضربات انتفاضة عارمة ضمن أحداث ما عُرف بـ«الربيع العربي»!
لقد كان الدرس المُستخلص من هذه الواقعة شديد الوضوح؛ فالحرية وحدها لا تصنع التقدم المأمول في المجال المعلوماتي والإعلامي، واتساق القوانين مع المعايير الدولية المرعية، وكفاءتها، ليست كافية وحدها لكي تخلق مناخاً مواتياً للتقدم المعلوماتي والإعلامي.
لم يكن هذا الدرس غائباً عنّي عندما شاركت في إحدى فعاليات «منصة الحوار»، التي انعقدت ضمن أعمال «قمة الإعلام العربي»، في دبي، خلال الأسبوع الماضي، تحت عنوان «مستقبل الصحافة المطبوعة».
وحسناً فعل القائمون على تنظيم «قمة الإعلام العربي» هذا العام، عندما خصّصوا جلسة ضمت عدداً من الخبراء، ورؤساء تحرير بعض الصحف العربية البارزة، لمناقشة مستقبل الصحافة المطبوعة؛ إذ تبقى هذه الصحافة عنصراً من عناصر الممارسة الإعلامية الراهنة، بعدما كانت ركيزتها الأساسية لعقود طويلة خلت.
وقد دار النقاش في أجواء من الانفتاح والتركيز، حيث استدعى بعض المشاركين الأمثلة على المتاعب الاقتصادية التي ترهق الصحافة المطبوعة، وعلى أنموذج الأعمال الذي تتبعه، والذي بدا أنه لا يتوافق بالشكل الملائم مع متطلبات السوق الإعلامية وقواعد التلقي المتغيرة بها.
وعندما بدأ الحديث عن الوسائل التي يمكن من خلالها إطالة عمر الصحافة المطبوعة، وتأمين موارد ضرورية لاستدامة أعمالها، ظهر ما يشبه الإجماع على أن مستوى الحريات السائد في معظم دول المنطقة العربية لا يساعد تلك الصحافة على الاستدامة والتطور، وهو الأمر الذي تلاه التأكيد على أن زيادة هامش الحريات في المجتمعات العربية ستكون عاملاً جوهرياً يساعد الصحافة المطبوعة على البقاء والتطور، ضمن عدد من المتطلبات الأخرى.
من جانبي، أوقن تماماً بأن الحريات المتوفرة في مجتمع ما ضرورة مهمة وركيزة جوهرية لنمو العمل الإعلامي وازدهاره، كما هي الحال مع أي نشاط إنساني وفني وإبداعي، في أي مجال من المجالات. لكن مع ذلك، فإن مشكلة الصحافة المطبوعة لا تكمن في حرمانها من القدر اللازم من الحريات فقط.
لقد انعقدت هذه الجلسة، ضمن فعاليات «قمة الإعلام العربي»، غداة إصدار تقرير منظمة «مراسلون بلا حدود»، الذي يُقيّم حالة حرية الصحافة في 180 دولة، من خلال معايير علمية مُعلنة، في عام 2025. وفي هذا التقرير حافظت النرويج على المرتبة الأولى، للعام التاسع على التوالي، وتلتها إستونيا، ثم هولندا، فالسويد، وهي دول لا تتمتع بمنظومات إعلامية مرموقة أو مؤثرة، وربما لا يعرف كثيرون من أبناء العالم العربي أسماء وسائل إعلام بارزة في أي منها.
وبينما تراجعت الولايات المتحدة الأميركية في مؤشر هذا العام مرتبتين، لتحتل المركز الـ57، فإنها ما زالت تمتلك أكبر منظومة إعلامية مؤثرة ونافذة عبر العالم، وما زالت وسائل إعلامها تسهم بقدر كبير في إرساء أجندة الأولويات العالمية في مجالات الإخبار والترفيه.
ورغم أن الدول الأوروبية الرئيسة مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا تحتل مواقع تالية لمعظم الدول الإسكندنافية، فإنها ما زالت صاحبة القدر الأكبر من التنوع والتأثير والنفاذ الإعلامي.
الحرية مسألة ضرورية ومُهمة لأي نشاط إعلامي، وهي شرط لتقديم إعلام مهني يتحلى بأكبر قدر من قواعد الإنصاف والموضوعية والاستقلالية والالتزام الأخلاقي، لكنها لا تضمن نجاح أنموذج الأعمال، ولا تنعكس بالضرورة في التأثير والنفاذ، للأسف الشديد.
وفي العالم العربي، احتلت موريتانيا مرتبة متقدمة بوضوح، وتلتها جزر القُمُر، كما كان اليمن والصومال في مرتبتين متقدمتين نسبياً، لكن مراكز التأثير الإعلامي العربية مع ذلك كانت في دول أخرى.
فصناعة الإعلام تحتاج الحرية بكل تأكيد، لكنها تحتاج أيضاً الكثير من مُمكنات الجودة والاحترافية والتنوع والموارد، وهنا يكمن الإشكال الحقيقي.
نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط.