زيد بن كمي يكتب: «الدبلوماسية الذكية في مواجهة الضوضاء»

مَا زالتِ ارتداداتُ الزيارةِ التَّاريخيةٍ للرَّئيسِ الأميركي دونالد ترمب إلى الشَّرق الأوسط منتصفَ هذا الشهر تتفاعلُ، وهي زيارةٌ لم تكن مجردَ محطةٍ دبلوماسية، بل كانت محمّلةً بدلالاتٍ تتجاوز جدولَ اللقاءات، لتكشفَ عن تحولات أعمقَ في منطقِ السّياسة الإقليمية.
ولعلَّ أبرزَ ما لفتَ الانتباه في زيارةِ ترمب الثانيةِ إلى الرياض، أنَّها لم تتضمّنْ محطةً في إسرائيل، في سابقةٍ ربَّما تعكسُ توازناتٍ جديدةً ومقاصدَ في صياغةِ الرسائل الدبلوماسية.
ومنَ الأشياءِ اللافتة التي تخلَّلت الزيارةَ هي دراسةٌ أكاديميةٌ مشتركةٌ صادرةٌ عن جامعتي «تل أبيب» و«بار إيلان»، ونشرتها مجلة «World» المتخصصةُ في العلاقات الدَّولية، وذلك في 11 من هذا الشهر، أي قبلَ الزيارة بيومين، وَحملتِ الدراسةُ عنوانَ «الدبلوماسية المتخصصة... السعودية نموذجاً»، هذه الدراسةُ لم تكن مجرّدَ مقاربةٍ نظرية، بل تفكيك لأدواتِ التأثير التي باتت السّعوديةُ تستخدمها بوعي هادئ لا يحتاج إلى شعاراتٍ، وبعيداً عن الصَّخب الإقليمي.
الدراسةُ التي أعدّها الباحثانِ الإسرائيليان؛ مردخاي حزايزا وكارميلا لوتمار، تشيرُ إلى أنَّ التأثيرَ العالميَّ في السياق الجيوسياسي الجديد، لم يعد مرهوناً بالقوةِ العسكريةِ أو القدرةِ على فرض الحلولِ بالقوة، بل أضحَى أكثرَ ارتباطاً بقدرةِ الدول على توظيفِ أدواتٍ دبلوماسية متخصصةٍ تتناسبُ مع تحولاتِ العالم وتعددِ مراكزه.
وَتصفُ الدراسةُ السعوديةَ بأنَّها قوة إقليمية تتصرَّفُ بثقة الدّولِ العظمى، وهي معادلةٌ لا تُبنى على الحجمِ العسكري أو السّكاني، بل على خمسِ أدواتٍ محددة ترسم بها الرياضُ سياستَها الخارجية، حدَّدتها الورقةُ بالوساطة السياسية، والثقلِ الإسلامي، والمساعداتِ الإنسانية، والطاقةِ، وأخيراً «الدبلوماسية الرياضية».
السّعوديةُ وفقاً للدراسة، تنتهج واقعيةً سياسيةً تجمع المتخاصمين من دون الإيغال في نزاعاتِهم، من أوكرانيا إلى السّودان، ومن طهرانَ إلى صنعاءَ، ومن الهندِ إلى باكستان، لتصبحَ الرياضُ منصةَ وساطةٍ تمتلك ما هو أهمُّ من المبادراتِ وهي القدرة على الجمع بينَ المتخاصمين.
أمَّا الثّقلُ الإسلامي، فالدّراسة لا تراه بُعداً روحياً فقط، بل بُعداً دبلوماسياً يُدار عبرَ مؤسساتٍ مثل «منظمة التعاون الإسلامي»، و«رابطة العالم الإسلامي»، ليشكّلَ أداةً سيادية ومنصةَ انفتاح في آن واحد، وفي ملف المساعدات، تُبرز الدراسةُ نموذجاً تجاوز النمط التقليدي، نحو دعمٌ تنمويٌّ مؤسسي تقوده كيانات كبرى مثل «مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية» و«الصندوق السعودي للتنمية»، إذ تجاوزتِ المساعداتُ 134 مليار دولار توزَّعت على أكثرَ من 170 دولة، في توازنٍ بين القيم والأهدافِ الاستراتيجية.
«الدبلوماسية الرياضية» لم تغبْ عن التحليل كذلك، فَالسعودية بحسبِ الدراسة، استثمرت في هذا المجال، بوصفه أداة تأثيرٍ ناعمة لا تكتفِي بعكس صورة الدولة الحديثة، بل تعكسُ قدرتَها على مواكبة التغيير من دون أن تنسلخَ من جذورها، من ملف استضافةِ كأس العالم 2034، إلى سباقات الفورمولا 1، والمصارعة، والملاكمة، والغولف، والعديدِ من المناشط، جميعها عناصر ترسم صورةً جديدةً للسعودية على المسرح العالمي.
وفي ملف الطاقة، تشير الدراسةُ إلى أنَّ الرياض لا تقود السوق عبر البراميل فحسب، بل من خلال تحالفات مثل «أوبك بلس»، بتموضعٍ ذكي بين الوقودِ التقليدي والطاقة المتجددة، في إدارة للتناقضات لا تهرب منها، بل تعيد توجيهَها لصالح رؤيتها الشاملة.
مُلخصُ الدراسة يشير إلى أنَّ السعودية تمارس الدبلوماسيةَ الذكية، وهي دبلوماسيةُ لا تعتمد على الخطاباتِ الحماسية، ولا المؤتمراتِ الطارئة، بل على فهمٍ متقنٍ لتحولات العالم، وإدارةٍ دقيقة لأدوات التأثير، فالسعوديةُ اليوم لا تحتاج إلى أن ترفع صوتها عالياً، لأنَّ صوتها مسموعٌ، ولا تطلب فرضَ وجودها، فوجودُها مفروضٌ في كل معادلة، لتنهجَ نموذجاً خاصاً بها لتحوّلَ بذلك الصمتَ إلى نفوذٍ، والتأثيرَ بديلاً عن الضوضاء.
نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط.