الأخطبوط الصامت: كيف تبني خلايا الإخوان نفوذها في بلديات فرنسا الكبرى؟

في شوارع ليل وليون ومرسيليا في فرنسا، لا ترفع رايات، ولا تسمع هتافات، لكن مشروعًا أيديولوجيًا يتشكل في الظل، إنه الإسلام السياسي بنسخته الإخوانية، الذي لا يقتحم الساحة، بل يتسلل إلى هوامشها، زارعًا خلاياه في الجمعيات والمدارس والمساجد، مستغلًا ثغرات الإدارة المحلية وغياب الدولة عن الأطراف.
وتكشف وثيقة استخباراتية فرنسية حديثة، نُشرت مقتطفات منها في "لوفيغارو"، عن خريطة مذهلة لهذا التغلغل، حيث تدار شبكات متماسكة تمزج الدعوي بالخدمي، وتستثمر في التعليم والهوية لتأسيس نفوذ طويل الأمد.
من مسجد ليل الكبير إلى مدرسة ابن خلدون في مرسيليا، ومن اتحاد الشباب المسلمين في ليون إلى معاهد قرآنية في مراكز تجارية، تنسج الجماعة شبكة نفوذ ناعمة، لكن عميقة، تهدد بانفصال مجتمعي صامت تحت أنظار السلطات.
فما الذي كشفه التقرير؟ وكيف تُبنى "أنظمة موازية" دون صدام مباشر مع الدولة؟ ولماذا باتت فرنسا تخشى من بلدياتها أكثر من شوارعها المركزية؟
فكيف مد الأخطبوط الإخواني أذرعه؟
من منطقة ليل شمالي فرنسا، رصد التقرير وجود نظام إخواني محلي متكامل تدعمه جمعيات دينية وتعليمية، أبرزها: مسجد ليل الكبير (GML)، الذي يعد مركز الثقل في هذه المنظومة، ويرأسه أيضًا المسؤول السابق عن المجلس الإقليمي للشؤون الإسلامية، كذلك الرابطة الإسلامية الشمالية (LIN)، الداعمة للمسجد، ولها امتداد بين مسلمي الشمال (RAMN)، ومركز المدينة الإسلامي (CIV)، تأسس في أوائل الألفينات، ويشكل جزءًا من هذه الشبكة.
ويرصد التقرير -كذلك- مدرسة ابن رشد الخاصة، التي تستقبل 800 طالب، ويتولى خزنتها مخلوف ماميش، عضو المكتب التنفيذي في منظمة مسلمو فرنسا، وتمول من GML وLIN وCIV.
ويشير التقرير إلى أن نحو 30 شخصية محلية تُعرف بأنها قيادات ضمن هذه الحركة، وتحتل مواقع مؤثرة داخل المؤسسات المحلية، مما يعكس وجود نمط من السيطرة الاجتماعية والثقافية.
ليون.. إرث جمعياتي متجذر
لم تكن منطقة ليل شمالي فرنسا وحدها إحدى بؤر تمركز الإخوان، بل إن التنظيم مد أذرعه إلى منطقة ليون التي تُعتبر من أبرز النقاط الساخنة، حيث تعمل جمعيات عدة ذات صلة بمنظمة Musulmans de France، أو تتبنى نهجًا فكريًا قريبًا من جماعة الإخوان المسلمين.
من أبرز الكيانات: اتحاد الشباب المسلمين (UJM)، المتأثر بأفكار طارق رمضان، ويعود نشاطه إلى الثمانينات، ومسجد عثمان الكبير في فيلوربان، ومجمع ديسين الثقافي، الذي يضم مدرسة ومسجد الكندي.
ويشير التقرير إلى أن 94 جمعية تنشط في المنطقة، تتنوع بين أنشطة خيرية وتعليمية ودينية، وتشارك أعضاء مشتركين وروابط فكرية وإن لم تربطها علاقات تنظيمية مباشرة.
ولوحظ، حسب التقرير، تصاعد في مظاهر التدين المتشدد، مثل ارتداء العباءة والحجاب من قِبل الفتيات الصغيرات، ما يخلق توترًا مع مراكز اجتماعية تتبنى سياسة «تعال كما أنت»، لكنها تواجه ضغوطًا هوياتيه متزايدة.
مرسيليا.. نموذج «الإسلام السياسي» المدعوم سياسيًا
مدينة مرسيليا طالتها الأذرع الإخوانية، فيشير التقرير إلى وجود نظام مواز حول ما يُعرف بـ«المركز الإسلامي لمرسيليا» (CMM)، الذي يضم: مسجد مريم، مدرسة ابن خلدون (370 طالبًا)، وعدة جمعيات ناشطة، بينها “شباب المسلمين في فرنسا”، ويديرها محسن نقزو، رئيس منظمة "مسلمو فرنسا".
وتكشف الوثيقة أن هذا النظام استفاد من علاقات وثيقة مع المنتخبين المحليين، ما مكّنه من الحصول على تصاريح بناء ومساعدات تنظيمية، ما جعله فاعلًا سياسيًا ودينيًا مهمًا على مستوى الإقليم.
بالتوازي، ظهر هيكل جديد حول معهد «مسلم دي بلوه»، في مركز تجاري قديم، يقدم خدمات دعم تعليمي ونقل للمصلين، ويضم مدرسة قرآنية تستقبل نحو 500 طالب.
ويقود هذا المعهد شخص يُدعى إسماعيل، ذو توجه سلفي، لكنه يستخدم رموز الجماعة الإخوانية، وله حضور قوي عبر شبكات التواصل الاجتماعي. في عام 2023، تمكن من جمع تبرعات لشراء محلات تجارية تُستخدم لأغراض دعوية وتعليمية.

تغطية القاصرات.. ظاهرة مقلقة
ورغم ذلك، إلا أن أحد أكثر المظاهر التي ركز عليها التقرير هو تغطية الفتيات الصغيرات بالحجاب، منذ سن الخامسة، في أنحاء متفرقة من فرنسا. ويشير التقرير إلى أن هذا التوجه يُغذيه تيار وهابي-سلفي قوي، يتقاطع مع أنشطة الإخوان في بعض المواقع.
يأتي التقرير في وقت حساس سياسيًا، بعد حل الجمعية الوطنية، وقبل انتخابات تشريعية مبكرة، ويُنظر إليه كوثيقة استراتيجية لتحديد مواقع التأثير الإسلامي السياسي، سواء على المستوى الثقافي، أو عبر النفاذ إلى البلديات.
ماذا يعني ذلك؟
بحسب محللين، فإن الوثيقة تعكس قلق فرنسا من صعود أنظمة موازية داخل المجتمع الفرنسي، تمتد من التعليم إلى الفضاء الجمعياتي، ما يطرح تحديات على مستوى الاندماج والهُوية والأمن القومي.
من جهته، يشير الباحث أوليفييه روا، الخبير المعروف في الحركات الإسلامية وأستاذ العلوم السياسية في معهد الجامعة الأوروبية، إلى أن الدولة الفرنسية «تركت فراغًا محليًا استثمره الفاعلون الإخوانيون بذكاء».
وقال الباحث أوليفييه روا، الخبير المعروف في الحركات الإسلامية وأستاذ العلوم السياسية في معهد الجامعة الأوروبية،: «حين تغيب الدولة عن الحي، يأتي من يملأ الفراغ بالقيم والهوية والانتماء، وهذا ما فعلته شبكات الإسلام السياسي، دون أن تخرق القوانين بشكل مباشر».
وأشار الباحث أوليفييه روا، الخبير المعروف في الحركات الإسلامية وأستاذ العلوم السياسية في معهد الجامعة الأوروبية، إلى أن تركيز هذه الشبكات على القاصرات والفئات الاجتماعية الهشة يعكس وعيًا استراتيجيًا بضرورة «بناء أجيال» تتماهى مع المشروع الفكري طويل الأمد، مما يتطلب تدخلًا متعدد المستويات، وليس فقط أمنيًا أو قانونيًا.
بدوره، قال ألكسندر دلفال الباحث السياسي الفرنسي في التنظيمات والحركات السياسية الإسلامية، إن ما يصفه تقرير الاستخبارات بـ«الأنظمة المتكاملة» في ليل ومرسيليا يعكس استراتيجية تمكين محلية بدأت منذ سنوات، تقوم على السيطرة على مفاصل التعليم والجمعيات والمساجد، دون مواجهة مباشرة مع الدولة.
وأضاف ألكسندر دلفال الباحث السياسي الفرنسي في التنظيمات والحركات السياسية الإسلامية،: «هذا التغلغل ليس جديدًا، لكنه أصبح أكثر تعقيدًا وتنظيمًا. هناك إعادة تدوير للخطاب وتكييف محلي واضح، حيث يجري استثمار الدين كهوية وقوة ناعمة لبناء نفوذ سياسي غير معلن».
وأشار ألكسندر دلفال الباحث السياسي الفرنسي في التنظيمات والحركات السياسية الإسلامية، إلى أن الخطورة تكمن في «الدمج بين الخطاب الإخواني والخدمات الاجتماعية»، ما يجعل المشروع السياسي يتسلل تحت غطاء العمل الخيري والتربوي، مؤكدًا أن الاستجابة الحكومية غالبًا ما تأتي متأخرة وتفتقر إلى المتابعة الدقيقة.