100 يوم بالرئاسة.. "ترامب" يعيد رسم خرائط النفوذ ويقلب قواعد اللعبة الدولية

بعد 100 يوم فقط من عودته إلى البيت الأبيض، يُثبت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن سياساته الخارجية لم تكن مجرد شعارات انتخابية أو ردود أفعال طارئة، بل رؤية متكاملة تقوم على تفكيك النظام العالمي التقليدي، وإعادة تشكيله على أساس الصفقات والمصالح الصلبة.
تحركات ترامب خلال ولايته الثانية عكست تحوّلًا استراتيجيًا في مقاربة واشنطن لعلاقاتها الخارجية؛ من التوتر المتصاعد في غزة واليمن، إلى تقارب غير مسبوق مع موسكو، وتراجع واضح في الدعم لكييف، وصولًا إلى انفتاح مدروس على طهران، كل ذلك يجري وسط تهميش للدور الأوروبي، وتصعيد نبرة "أمريكا أولًا" التي باتت لا تُخفي استعلاءها حتى على الحلفاء.
في هذا التقرير، نرصد ملامح التغير في المشهد الجيوسياسي العالمي بعد 100 يوم من عودة ترامب إلى السلطة، ونسلط الضوء على أثر سياساته في ملفات النزاع، التحالفات الإقليمية، والدور الأمريكي في العالم.
بناء منطق الصفقات
أعاد ترامب تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية وفق منظور لا يعترف بالمؤسسات الدولية ولا بالقواعد التي رسّختها واشنطن نفسها بعد الحرب العالمية الثانية.
وعبر فرض رسوم جمركية شاملة، وتهميش الشركاء الأوروبيين، وتقليص المساعدات الخارجية بشكل غير مسبوق، برزت معالم سياسة خارجية تعتمد على الصفقات والضغوط المباشرة أكثر من الالتزامات متعددة الأطراف.
وصف مارك ليونارد، رئيس المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، سياسة ترامب بأنها نسفت المسلّمات السياسية والدبلوماسية التي ميّزت العلاقات الدولية لعقود، معتبرًا أنه «لم يعد هناك فرق واضح بين الحليف والعدو، أو بين الحرب والسلام».
وأضاف أن سلوك ترامب، بما في ذلك «محاولات عقد صفقات حول معادن أوكرانيا وتهديد غرينلاند وبنما»، جعل النظام الدولي القائم على القانون والشرعية مهددًا بالتآكل.
السلام من خلال القوة
ورغم ما يروّجه ترامب عن كونه «صانع سلام»، إلا أن الوقائع تظهر عكس ذلك؛ فغزة تشتعل مجددًا مع استئناف إسرائيل لهجماتها، في وقت تزيد فيه الضربات باليمن، بينما يبقى النزاع الأوكراني على حاله دون أي بوادر انفراج.
روسيا وكسر العزلة
أحد أبرز تحوّلات السياسة الخارجية في عهد ترامب الجديد كان تقاربه اللافت مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في محاولة لإنهاء عزلة موسكو التي فرضتها إدارة جو بايدن.
وعبر مفاوضات جرت في السعودية، بدأ الطرفان خطوات لإعادة بناء الثقة، ولو على حساب الموقف الأوكراني.
وقد بدا واضحًا أن الإدارة الأمريكية الجديدة لم تعد تتبنى الدعم المطلق لكييف، وهو ما تأكد خلال اللقاء الصاخب في البيت الأبيض حين هاجم ترامب ونائبه جاي دي فانس الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي علنًا، ما عكس فتورًا غير مسبوق في العلاقة بين البلدين.
وتعزز هذا الاتجاه مع تهميش الأوروبيين في مسار التفاوض، ما دفعهم إلى عقد اجتماعات ثلاثية مع مسؤولين أمريكيين وأوكرانيين، محاولة منهم لاستعادة بعض النفوذ في ملف بات يتحكم فيه ترامب من موقع القوة.

الملف الإيراني
أما على الجبهة الإيرانية، فقد عادت لغة المفاوضات إلى الواجهة، ولكن هذه المرة عبر وساطات غير مباشرة، قادها المفاوض ستيف ويتكوف من سلطنة عمان وروما، في مشهد يعيد إلى الأذهان محاولات ترامب السابقة للعب دور الوسيط الصلب.
ورغم استمرار سياسة «الضغوط القصوى»، إلا أن واشنطن لا تستبعد حلاً دبلوماسيًا، مع التلويح دائمًا بالخيار العسكري لمنع إيران من امتلاك سلاح نووي. ورغم الانسحاب الأحادي من الاتفاق النووي عام 2018، تؤكد إدارة ترامب اليوم أنها وحدها القادرة على إدارة مفاوضات «خارج الصندوق» قد تؤدي إلى صفقة جديدة.
كوريا الشمالية
رغم تصاعد التوترات في مناطق متعددة، فإن كوريا الشمالية بقيت خارج جدول أولويات ترامب حتى الآن.
هذا الغياب اللافت يأتي بعد سنوات من التهديدات المتبادلة والقمم التاريخية التي وصفها ترامب آنذاك بأنها «قصة حب» مع الزعيم كيم جونغ أون.
انسحابات دولية وتخفيضات إنسانية
كجزء من رؤيته لخفض الإنفاق الحكومي، أعلن ترامب انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية، وأقر تخفيضات جذرية في ميزانية المساعدات الخارجية، مستهدفًا برامج التنوع والمساواة التي وصفها بالـ«هدّامة للهوية الأمريكية».
كما أعاد تفعيل سياسة ترحيل المهاجرين غير النظاميين، مع إرسال بعضهم إلى سجون شديدة الحراسة في أمريكا اللاتينية، وشنّ حملة موسّعة ضد عصابات المخدرات المكسيكية، معتبرًا إياها «منظمات إرهابية أجنبية».
نحو انتخابات جديدة.. أم نظام عالمي على حافة التحول؟
ومع اقتراب استحقاق الرئاسة، لا يبدو أن دونالد ترامب يخوض فقط معركته من أجل ولاية جديدة، بل معركة لإعادة هندسة النظام العالمي برمّته، وفق منطق القوة والهيمنة الفردية. في عهده، لم تعد واشنطن تسعى لقيادة العالم من موقع الشراكة، بل من موقع المساومة الصارمة والهيمنة الاقتصادية.
هذا التحول يحمل وجهين: من جهة، يعيد لأمريكا القدرة على تحريك الملفات وفق مصالحها، ومن جهة أخرى، يُضعف الثقة الدولية بمنظومة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ويُسرّع تفكك التحالفات التي استغرقت عقودًا لبنائها.
وإذا استمر ترامب في هذا المسار التصادمي، فإن العالم قد يكون على أعتاب مشهد دولي جديد لا تحكمه القواعد، بل الصفقات المؤقتة، والتحالفات الظرفية، والقوة المجردة، وهو ما قد يُنتج نظامًا أكثر خطورة، لا تسود فيه لا الشرعية الدولية، ولا الاستقرار طويل الأمد.