رئيس مجلس الإدارة
د. رائد العزاوي

د. أنمار الدروبي يكتب: النظام السياسي الدولي والعنف السياسي

نشر
الأمصار

كانت أحداث العالم المتلاحقة في نهاية القرن العشرين توحي بأن الأوضاع الدولية قد أخذت منعطفا حاسما بنهاية الحرب الباردة وإيذانا بميلاد نظام عالمي جديد سيُحقق السلام. لكن الأحداث الدامية وما شهدته الكثير من بقاع العالم من حروب وانتهاكات لسيادة بعض الدول، وكذلك تشريد الملايين وتهجيرهم من مواطنهم الأصلية، قوّضت هذا السلام المنشود. ففي الوقت الذي ينتفي فيه خطر حرب عالمية جديدة، ويتعاظم الأمل بحالة من السلم والأمن الشامل، تتزايد الحروب المدمرة، وتواكبها حركة عنف شاملة. فالحرب الجديدة وَفق هذا المنظور، لم تعد مجرد نزاع بين بلدين متناوئين، ولا هي صراع بين معسكرين، وإنما هي مواجهة متعددة الأبعاد تكون تارة فتنة قومية بين أمم، وتارة أخرى تكون نزاعاً شاملا.
ويشهد النظام السياسي الدولي منذ فترة حالة من العنف السياسي غير مسبوقة، حيث استخدمت القوى العظمى والكبرى وما تزال شتى وسائل العنف السياسي تجاه دول العالم الثالث، سواء بوسيلة القهر العسكري الموجه، أو بوسيلة الهيمنة الدبلوماسية على باقي دول العالم. لاسيما أن عناصر القوة هي الأسس التي تشارك في تحديد الأمن القومي للنظام السياسي الدولي، وتمثل قاعدة عمل له، ويمكن تحديد عناصر القوة للفواعل المهيمنة على النظام السياسي الدولي هي، العنصر الجيوبولتيكي والديموغرافي والاقتصادي والسياسي والعسكري. بيد إن الولايات المتحدة الأمريكية التي تُعد نفسها القوة المتفوقة عالميا، تستخدم كل عناصر القوة بذريعة مواجهة الاخطار التي تهدد الأمن العالمي، لكن الحقيقة هي الأخطار التي تهدد قانون هيمنتها الفعلية على العالم. من هنا أصبح الوضع الراهن في الحياة السياسية العالمية يقوم على نشر الرعب في كل مكان من العالم بواسطة التهديد المتواصل والإعلان الصريح باستخدام القوة الجبارة، تلك القوة التي تترصد كل تعارض وكل خروج عن النظام العالمي.
وفقا لما تقدم، أصبح العنف السياسي الدولي واستراتيجيته، يعكس العلاقة بين الأمن القومي العالمي والديمقراطية وتحديدا في أوقات الأزمات، لاسيما أن العلاقة بينهما تتسم دائما بالتصادم، بمعنى أن تلك القوى المهيمنة على النظام الدولي فشلت في التعامل مع أزمات الأمن القومي. ذلك لأن الهيمنة بالقوة لا تنتج إلا الصمود بالقوة والعنف والإرهاب. حيث شهد القرن العشرين أعتى موجات العنف والعنف السياسي الدولي، فكانت الإبادة الجماعية في هيروشيما وناكازاكي، واجتياح القوى العظمى والكبرى للعالم الجديد وإبادة شعوب بكاملها كانت تعيش هانئة في أراضيها، وتهجير شعب دولة أخرى وتشريده، مع استمرار العنف السياسي الدولي في القرن والواحد والعشرين.
وبالرغم ما تمارسه القوى العالمية المهيمنة على النظام السياسي الدولي من أساليب العنف السياسي، إلا أنه لم يذكر التاريخ قوى واحدة تمكنت من السيطرة على مقدرات العالم، وأحكمت سيطرتها عليه، حيث تدخل كل الأطراف مما يؤدي إلى الإخلال بالأمن. وبما أن مفهوم الأمن القومي نسبي من الناحية الإيديولوجية، فتغير نظام الحكم في دولة ما بشكل أساسي، أو تغير الإيديولوجية التي تأخذ بها النخبة الحاكمة، كلها تطرح تأثيراتها على مفهوم الأمن القومي، بالتالي سيكون مفهوم العنف السياسي الدولي هو أيضا حقيقة نسبية وليست مطلقة.


القوى عبر القومية والعنف السياسي:
ثمة قوى أخرى في النظام الدولي تقوم بنشاطات غير رسمية تخرج عن نطاق سيطرة الأجهزة الحكومية، حيث يكون عمل هذه المنظمات خارج الحدود القومية ويطلق على هذه القوى (القوى غير القومية)، وهي في النظام الدولي تأخذ شكلين:
1.المنظمات غير الحكومية.
2.الشركات المتعددة الجنسيات.
وتُشير بعض الدراسات إلى إن ظهور أول منظمة غير حكومية يعود إلى سنة 1617م، دون تحديد هويتها ولكن حسب المصادر والأبحاث إلى أن أقدم منظمة غير حكومية كانت هي منظمة الأصدقاء (كوكارس) سنة 1624م، وهي منظمة ذات طابع ديني تقوم على تقديم المساعدات الإنسانية. لكن ظهورها أرتبط بعد ظهور الجمعيات الدولية التي ارتبطت بالبعثات التبشيرية التي كانت ترسلها الدول الأوروبية إلى العالم، بالإضافة إلى إفرازات الثورة الفرنسية وما حملته من أفكار تحريرية للدفاع عن حقوق الإنسان. أما مرحلة الحرب العالمية الأولى والثانية فقد تعرضت المنظمات غير الحكومية لتراجعا ملحوظا وذلك بسبب طبيعة الظروف الدولية السائدة وأبرزها فشل عمل عصبة الأمم في أداء وظيفتها وانتشار الفكر الشمولي المتطرف وتسلط الأنظمة الدكتاتورية الفاشية والنازية، حيث لم يكن المجال مفتوح بشكل كبير من خلال النشاط السري. 
وفي مرحلة الحرب الباردة فقد تعرضت المنظمات غير الحكومية لأزمات كثيرة نتيجة للصراع الإيديولوجي مما خلق انشقاقات داخلية أدت إلى إضعاف هذه المنظمات والحد من قدرتها وأداء دورها المطلوب. بالتالي شهدت المنظمات غير الحكومية انتقالا من الوضع المحلي إلى الوضع العالمي وأصبح لها تأثيرا كبيرا في ممارسة العنف السياسي في النظام الدولي.
أما الشركات المتعددة الجنسية فهي تمثل اليوم قوى اقتصادية ضخمة، يمكنها من أن تتبنى استراتيجيات مستقلة في مواجهة النظام السياسي الدولي، وتأتي أهمية هذا الدور الذي تلعبه الشركات متعددة الجنسية في النظام الدولي من ضخامة هذه الشركات وقوتها الاقتصادية وقدرتها المالية الضخمة التي قد تتعدى ما تملكه العديد من الدول من ميزانيات. ويمكن إيجاز ما تمارسه هذه الشركات من أساليب العنف السياسي، من خلال أثر هذه الشركات على الاقتصاد الدولي بإضعاف سيادة الدول المتصلة وتقليص دورها الاقتصادي والاجتماعي وخلق شريحة اجتماعية طفيلية وإضعاف ميزان المدفوعات وحرمان الدول المضيفة من أنشطة البحث العلمي والتطوير وإغرائها بمنحها عائداً أكبر لاستثماراتها لإبعادها عن إرساء قاعدة إنتاجية لها وبنفس الوقت استغلال المزايا النسبية للدول المضيفة ولجوء هذه الشركات للتمويل من السوق المحلية في المرحلة اللاحقة والمساهمة بمعدلات منخفضة في العبء الضريبي وزيادة الفساد في المجتمع.
الجدير بالذكر أن الشركات المتعددة الجنسيات تتميز بضخامة حجمها، لاسيما أنها تستحوذ على 80% من إجمالي مبيعات العالم. ومع اتساع الرقعة الجغرافية لنطاق الشركات المتعددة الجنسيات، أصبحت تتمتع بمساحة كبيرة في السوق. كما أن تنوع نشاطاتها وتفوقها وتطورها الأيديولوجي، ساعدها في إقامة التحالفات الاستراتيجية في العالم.
وتأسيسا لما تقدم، فإن عالم اليوم يُشكل العنف السياسي فيه جزءاً لا يتجزأ من السياسة الدولية، فعلى مستوى العَلاقات بين الدول يظهر العنف ممثلا بمظهر الإجراءات المروعة والضربات العسكرية التي تمارسها الدول الكبرى على الدول الضعيفة. كما يظهر العنف السياسي في أشكال عديدة، كالعقوبات الاقتصادية، وقطع المساعدات من قبل الدول الغنية، أو تخفيض كمية المشتريات، أو حظر تصدير الأسلحة والمواد الضرورية، أو فرض الحظر الجوي على دولة ما وغيرها من الإجراءات التعسفية إذ تتعدد وتتنوع أشكال العنف السياسي الدولي بحسب الأوضاع والمعطيات المادية والسياسية والاقتصادية. في السياق ذاته تُعد الحروب بين الدول إحدى المظاهر الخطيرة للعنف السياسي الدولي، وتتنوع هذه الحروب بنوع غاياتها ومقاصدها، وكذلك تتباين الحروب حسب مدى وحجم الإمكانات والمعَدات العسكرية المستخدمة، وتختلف أنواع الحروب أيضاً باختلاف عدد الدول المشاركة فيها وحجم الخسائر التي ينتج عنها إلى أن أصبحت الحروب تُمثل درجة متصاعدة وحادة من مظاهر العنف السياسي الدولي، كالحرب الشاملة، والحرب العالمية، والحرب المحدودة، والحرب الوقائية، والعمليات العسكرية المحدودة المؤقتة، وسيطرة الدول الغنية على خيرات الدول الفقيرة.