رئيس مجلس الإدارة
د. رائد العزاوي

داليا الحديدي تكتب: لماذا لا تحب عنزة الفريج إلا التيس الغريب؟

نشر
الأمصار

يقال: "كثرة المساس تُبلد الإحساس"، ما يعني أن وفرة النعمة تولد ازدرائها، ابتذالها وعدم تقديرها والتعامل معها باعتيادية وبلادة كما ورتابة.

ويقال "ازهد الناس في العالم أهله وجيرانه" 

والعوام يقولون: "زمار الحي لا يطرب" و"الشيخ البعيد سره باتع"، ثم أليس كل نبي في وطنه مهان؟.

أما الشاعر فقد واسى نفسه بقوله:

لا عيب لي غير أني من ديارهم .. وزامر الحي لا تشجي مزامره 

 

والمثل اللاتيني يقول 

The grass is greener on the other side

وفي الخليج يقولولون:"عنزة الفريج ما تحب الا التيس الغريب" 

والأية الكريمة اشارت "لايلاف قريش ايلافهم " أي أن اعتيادهم الترحال قد أفقدهم لذة السفر.

وقد روي أن أم "الإمام أبو حنيفة" كانت تثق بتلميذ لابنها يدعى "عمر بن ذر" وتهتم بحضور مجالسه فيما تزهد بمجالس ابنها الإمام، كونها تستخف بعلم صغيرها رغم أنه أستاذ "بن ذر"، حتى أنها كانت تطلب من "أبو حنيفة" أن يأخذها لمجلس "بن ذر" لتستفتيه، فيفعل،

ويذهب و هو الإمام ليستفتي تلميذه في مسألة هو عليم بها

فيتعجب التليميذ:"كيف تسألني وأنت إمامنا؟

فيرد: "لأرضي والدتي".

فيقول عمر: " فلتخبرني بإجابة سؤالها، فهي عصية عليّ

فيخبره الإمام بالجواب سراً، ليرفع عمر صوته ليُسمع الأم

:"يا أبا حنيفة، جواب مسألتك كذا وكذا". 

فتثق في رأي التلميذ ولا ترضى بنفس الإجابة من ابنها! 

وقديما قال الشافعي: دع الأوطان واغترب:

إني رأيتُ وقوفَ الماء يفسدهُ .. إِنْ سَاحَ طَابَ وَإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ

والشمس لو وقفت في الفلكِ دائمة ً .. لَمَلَّهَا النَّاسُ مِنْ عُجْمٍ وَمِنَ عَرَبِ

والتَّبْرَ كالتُّرْبَ مُلْقَى ً في أَمَاكِنِهِ .. والعودُ في أرضه نوعً من الحطب

فإن تغرَّب هذا عزَّ مطلبهُ .. وإنْ تَغَرَّبَ ذَاكَ عَزَّ كالذَّهَبِ

..

وقد كتب الدكتور مصطفى محمود معنى رائع مفاده أن: "النفس الإنسانية لا تزداد شبعاً، بل جوعاً، كما تزداد خواء، لا امتلاءً".

واتفق مع الدكتور محمود، على أني أحسب أن هذا الجوع مشروط بالتنوع، فتعطش النفس للتكاثر يكون شريطة تجربة الجديد والمختلف مع الزهد في القديم المألوف وهجر ما بقبضة اليد والتطلع لحوزة المحرم بيمين الآخر، سيما لأن الممنوع مرغوب أو لأن الفاكهة المحرمة أكثر حلاوة كما افاد المثل الإنجليزي. ولربما اتفاقا مع ما افاده الغرب من أن هناك علاقة عطسية بين الوفرة والقيمة

Scarcity is related to value

..

وللدكتور مصطفى مقال مميز بعنوان "أسرار الشعور" يوضح فيه كيفية تغير مشاعر الزوج تجاه زوجه فيقول: 

:"زوجتك تحس بها وأنت تشرع بالزواج منها أو بفترة التعارف، أما إن تزوجتها ولبستها " كالفانلة " وأحاطت بصدرك وذراعيك، فستنسى الشعور بها، حتى تصبح كقطعة أثاث بالبيت، تدخل يوميًا لتجدها بمكانها، كالمنظر، تطل عليه من شرفتك يثيرك للمرة الأولى، ثم يصبح عادياً ثم تنساه تماماً، وتظل المرأة منسية كفانلة، حتى تأتى اللحظة التي يوشك الزواج أن يصل فيها لهاوية الطلاق، فإن بدأت في خلعها كما تخلع فانلتك، ستعود في تلك اللحظة تحديداً للشعور بها بعنف وقد ترتجف خشية فراقها."

فما السر في فتور مشاعر البشر؟

لما يكدح المرء للحصول على وظيفة، ثم بمجرد حصوله عليها وإن تضاعف راتبه، يتضاعف سخطه، سواء من الإستيقاظ المبكر، أو المواصلات التي عليه أن يخوض غمارها،أو من الزملاء و مؤامراتهم، والمديرين ومطالبهم، أوالسعاه ومعايبهم. 

-لماذا يحلم المرء بشقة متواضعة بالإيجار، فيهديه رب العالمين فيلا أو ربما بيتاً رحيباً ملكًا له، فيسعد به أول أسبوع، ثم ينسى النعمة ويعاود التذمر وسيمفونية السخط وقد يعلن جهاراً أن أسعد أيامه كانت أيام اقامته في شقق بالإيجار و- أبداً - لا يمارس الشكر.

 

-كيف يمضي الطلبة عقد من الزمان بالمدرسة أو يزيد، يسخطون ويشتكون.. ثم بمجرد تخرجهم، يشتاقون لصفوف الدراسة ومراتع الأطفال وجلسة الفصل ومسطرة المدرس وشدة الأذن وجرس الفسحة والرحلات المدرسية وأتراب الدراسة، بل ويعظمون الأقسام أن ما من أفراد أحب إليهم من رفقاء الصف ولو غابوا عنهم لدهور، وأنها كانت أحلى الأيام،على أنها وقتها كانت ثقيلة، رذيلة، ومبلدة بالنصوص والواجبات والمسائل والإمتحانات والملخصات، كل تلك السلبيات تنسى ولا تبقى سوى سكاكر الذكريات .

فلماذا نتعلق بذكريات مضت ونهجر التمسك بالحاضر؟

ولما تنطفئ شعلة قلبين كان يرومان الزواج، و بعد القران، تتصلب المشاعر، لتموت العلاقة ابتذالاً واعتيادًا، وإن انفصلا عضّا أصابع الندم خنصره، بنصره وحتى الإبهام؟

لماذا يهمل الزوج زوجته لعقود؟ فإن ماتت، ينهار، فيرثيها بدمع سخيّ، سخين وينشر على الملأ من لطيف الكلام، ما سمعت الفقيدة منه حرفًا، وينحل عليها صفات ما لبستها يومًا؟

اذكر أني بصباي، قابلت كتابًا شهيرًأ وزوجته، فهالني حسنها، فهي تناطح فتنة الفنانة "ليلى فوزي" أناقة ورقيًا، لكنه كان يتحرى تهميشها أمام الملأ، على أني لن أنسى كيف رثاها عقب وفاتها بمفردات تضمنت "الفخامة والأبهة" 

وصف في المقال، شريكته الراحلة، وجهها، صوته، أناقتها، وقفتها، حسبها، نسبها، طبخها، طيبتها، مشاعرها، مستخدماً كلمات"أبهة، فخامة وعلياء".

أما وهي حية في بيته، فكان متمرسًا في تحقيرها علانية، رغم أنها كانت أهلًا لتلك المفردات".

بحسب دكتورمصطفى محمود، فالسر يكمن  بكيمياء الأعصاب التي تشعر بلحظات التحول والانتقال ولا تنتبه لساعات الاستمرار.

فمهما عشت بصحة طيبة لا تشعر بقوة بدنك سوى ساعة المرض كما لا تشعر إلا بالعضو المنهك، فظهرك بخير لو لم تشعر بفقراته، أما لو بدأت تسمع صوت الفقرات، فثمة وجع يطنّ.

 

-تتجول بحانوت للعطور، فتتملكك نشوة لا تستمر سوى لثواني، ثم تفقد الاحساس بتلك الرائحة مهما غلا ثمن العطر!

-تطير بالطائرة، فتشعر بدقيقة الإقلاع وثواني الهبوط، لكن تفتقد الشعور بسلامة الرحلة في حالة حدوث مطبات هوائية!

-بالمصعد، تشعر فقط بلُحظة انتفاضته أوهبوطه، أما في الثواني بين اللحظتين فلا تشعر بشيء لأن حركته مستمرة.

-يحيا عمرًا مديدًا منعمًأ، فإن سؤل عن حظه من الدنيا، اجاب

:"ما طلعتش منها غير بابني، هو المكسب الوحيد في حياتي".

ينسى الدار، الدوار والجار والمأوي، الوظيفة والراتب، الزيجة، والعائلة، الأصدقاء الوطن، ينسى نعم الأمن والصحة والمال والأرض، والملابس، العطور، الرحلات، اللهو، الضحك، المسامرة والقبول ولا يذكر سوى مآسيه، ونعمة يتيمة هي ولده.

تعساً للكنود!

يشكوا شقاوة صغاره وغلاء كلفة دراستهم ومصروفات سترتهم، دروسهم، علاجهم، خلافاتهم، ضيوفهم وعنته في تحضير أعياد ميلادهم، بل يعلوا صوته عليهم وأحيانا يبطش بهم طغيانًا وظلمًا، فلا طاقة له بمشاكلهم! 

جننوني، الله يحرقهم، في ستين داهية". " 

- وإن مات أحدهم من أصل سبعة، تجد أطفال الدنيا كلهم ذكرانًا وإناثاً لا يعوضون أنفاس الراحل، مشيته، نبرة صوته، لدغته، كركعات ضحكاته ومزاحه ومراحه وحلو صراخه.

يفتأ يذكر رعشته وغمراته وقبلاته لحلوى طلبها منه.

وكيف طار طربًا بأول دراجة اهداه إياه.

ويوم جاءه مطأطأ الرأس معتذراً عن علاماته الضحلة.

ثم يعض على أصابع الندم حين يتذكر أنه حباه بأول أسراره.

كما يطن في أذنيه صخبه كمحلى للعالم يوم علمه قيادة الدراجة.

كما يتراءى له برقة عينيه ليلة أبلغه انه سيصحبه لقضاء الصيف في أسبانيا.

ويشرع يلعن ذاته كونه قسى عليه يوماً. 

وتدمع مقلتيه إذا ما تذكر مشهد دخوله عليه في مخدعه، فاذا بصغير الأمس يضع يده بيستر بها عورته، ويطلب منه أن يطرق الباب لاحقًا قبل أن يقتحمه، إذن، لقد كان شرع في أن يشب ويستوي عوده.

وتراه يترك مخدعه بالطريقة الغير منظمة التي تركها عليها يوم رحيله، على أنه كان يثور من قبل لفوضاها، كما يرفض غسل ملائته كونها تحمل لزاجه وعطر انفاسه وبصمات وجوده في الكون.

وأخيرًا يعترف أن كنوز الدنيا وحتى سائر أبنائه من صلبه، لا يعوضان فقدانه لصغيره الذي مات.

أكان يحب ولده أم عشق ذكراه أم قدّر وجوده بعد فقده؟

لأمير الشعراء بيت معبر يقول فيه 

: وهل الأذن بعد العين ترى .. أم هل العين بعد الأذن تسمع؟

أي لا بديل لعزيز عن غالي ..ولا وليد جديد يعوض إبناً رحل.

 

إذن فالديمومة والاستمرارية ماحية للإحساس كون أعصابنا عاجزة بطبيعتها عن الشعور بالمنبهات الدائمة مهما كانت ثمينة، كما ورد عن د. مصطفى الذي سرى أننا مصنعون من الفناء، لذا، لا نعي قيمة الأشياء إلا لحظة فنائها.

 أما أنا فأضيف: إننا نشعر بها أيضاً لُحيظة اقتنائها.

-والعجب أننا ندعو بالبركة مع جهلنا لحقيقة معناها، فالبركة تعني دوام النعمة وأصلها يعود ل "برك الجمل"، فالجمل حيوان ضخم، طويل كما وحمول، لذا، استخدموه في الترحال، وحين يبرك يجلس طويلاً ويستمر فترة طويلة باركاً على الأرض ليستريح قبل عودته للقيام .

لذا فنحن نأمل أن تَبرُك أنعُم الله لدينا ولا ترحل عنا، فيما لا يعرف شيء يقيد النعم أكثر من الشكر.

كما لم يعرف شيء طارد للنعم سوى التذمر والسخط.

والحديث الشريف يرد به هذا المعنى:"قيدوا النعم بالشكر".

والأسعار خير شاهد على هذا الأمر، فاكثر الناس اعتادت و استساغت الشكوى من الأسعار، ولم يلحظ أحد انه كلما نشتكي ، تزداد الأسعار إرتفاعًا، ثم لا ينتهون عن التذمر .. ولا زالت الأسعار تتضخم .. وقانون الكون عنيد.

"وإن شكرتم لأزيدنكم، وأن كفرتم ،فإن عذابي شديد".

ولن انسى ما حييت وقفة "ماثيو ماك جانهانت" أثناء القائه لكلمته على اثر حصوله على " الأوسكار " فقد بدا بشكر الله وافاد أنه تعلم حقيقة ثابتة مفادها أن العرفان يعود

Gratitude reciprocates 

 

فندر من يقيم الأشياء والأشخاص قُبيل الفقد، وأندر منه من تدوم حلاوة سلام أول لقاء في كفيه.

-ندر من مُنح قدرة النظر في قدح الشاي لتأمل حلاوة مظهر الاستكانة وهبة التلذذ بمذاقه وأنه وهب القدرة على استساغته والاستفادة منه، فمرء الشراب من فمه لسائر أعضاؤه، ففهم معنى "مطرح ما يسري يمري" ومطرح ما تمنح النعمة تدوم تهنأ بديمومتها.

لماذا؟

لاعتياده عليها ، فحسب أن النعمة تكمن في الإستزادة من المفقود و كان حريًا به أن يعلم أن النعمة الحقيقية تكمن في بقاء الموجود.

-ندر من يثمنون ثرواتهم قبيل أن تفر من بين حساباتهم وأندر منهم من ينعمون بأحبتهم قُبيل الطلاق.

 

حتى مع خالقنا، لا نُشعره بحاجتنا إليه، سوى ساعة البلاء، لا النعماء، حتى أنه سبحانه ذكر في كتابه الكريم

 "وإذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا، فلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ، مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ ، كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ".

 

و صدق القائل:

يطلب الإنسان في الصيف الشتا .. فإذا ما جاء الشتا أنكره

ليس يرضي المرء حالاً واحد .. قتل الإنسان ما أكفره

وتبقى الإستثناءات تثبت القاعدة ولا تنفيها.

 

*المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع