رئيس مجلس الإدارة
د. رائد العزاوي

"جزيرة القرم" صراع مستمر وتهديد صريح من روسيا للغرب وأوكرانيا

نشر
الأمصار

"شبه جزيرة القرم" من الأماكن التي تصدرت مشاهد النزاع بين الجانب الروسي ونظيره الأوكراني، عبر التاريخ، فكانت ومازالت موضع للخلاف ومحاولات العبث بين الجانبين.  

فنجد روسيا تهدد، أوكرانيا والدول الغربية بأنها سوف ترد بشكل مناسب على أي تصريحات بشأن كون شبه جزيرة القرم لا تقع ضمن السيادة الروسية.

وبهذا، يبدو أن شبه جزيرة القرم، في طريقها وفق مراقبين وخبراء عسكريين للتحول إلى ميدان مواجهة مجددًا بين الجانبين الروسي والأوكراني، بعد مضي سنوات عديدة على ضمها لروسيا.

وهو ما أكده المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، في بيان له، تعليقًا على تصريح مستشار الرئيس الأوكراني ميخائيل بودولياك بشأن القرم إن شبه جزيرة القرم جزء لا يتجزأ من روسيا، وأي مطالبات بأراض روسية ستلقى الرد المناسب.

وتابع بيسكوف، ردا على بودولياك، حول التزام الغرب بتزويد أوكرانيا بصواريخ بعيدة المدى لضرب الأراضي الروسية، "جمهوريتي دونباس هما دولتان مستقلتان، تعترف روسيا باستقلالهما، وقد طلبتا من روسيا المساعدة في ضمان أمنهما، وهو ما تلبيه روسيا.

وأضاف:"أما شبه جزيرة القرم فهي جزء لا يتجزأ من روسيا  لذلك فإن أي مطالبات بهذه الأراضي سوف تتلقى الرد المناسب من قبل روسيا". 

 تحرير القرم

لم تكن هذه الإشارة الأولى لدخول شبه جزيرة القرم لدائرة النزاع الروسي-الأوكراني، من جديد، ففي تصريح سابق للرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، قال، إن الحرب بدأت بشبه جزيرة القرم وستنهي بها، متعهدًا باستعادة شبه الجزيرة التي ضمتها روسيا في عام 2014.

وأضاف:"من أجل استعادة الأمن والاستقرار إلى أوروبا والعالم، فأوكرانيا تحتاج إلى النصر في مواجهة القوات الروسية، ذلك، نحن بحاجة لتحرير القرم من الاحتلال أيضًا، فالحرب بدأت في القرم وستنتهي بالقرم".

ولم تكن هذه التصريحات الأولى من نوعها، إذ كرر جملة أن الحرب بدأت بالقرم وستنتهي بها، وذلك بعيد وقوع هجوم على قاعدة روسية هناك.

فيما هدد مسؤولون في الحكومة الأوكرانية بقصف جسر كيرتش الاستراتيجي، الذي يربط شبه الجزيرة مع روسيا وافتتحه الرئيس فلاديمير بوتن في عام 2018.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن.. ما هي قصة شبه جزيرة القرم؟

تقع شبه جزيرة القرم جنوب أوكرانيا بين البحر الأسود وبحر آزوف وتمتد في البحر الأسود، وهي لا تتصل بالبر القاري إلا من خلال شريط ضيق من جهة الشمال، ويمتد من جهتها الشرقية شريط أرضي يكاد يتصل بالأراضي الروسية، ويفصلها عن روسيا من الشرق مضيق كيرش.

وتبلغ مساحة شبه جزيرة القرم 27 ألف كيلومتر مربع، فيما يبلغ عدد السكان نحو مليوني نسمة وفقا لإحصاء عام 2001، ويشكل الروس أغلبية السكان في القرم، ولكن تسكن في المنطقة أيضا أقليات لا بأس بها من الأوكرانيين والتتار.

ويمثل تتار القرم المسلمون نحو 12 في المئة من سكان شبه جزيرة القرم، ويبلغ عددهم نحو 243 ألف نسمة من عدد السكان البالغ مليوني نسمة في الإقليم.

ويعد السكان من ذوي الأصول الروسية الذين تبلغ نسبتهم نحو 58 في المئة أكبر عرقية تسكن الإقليم، وهو ما يفسر نتيجة التصويت لصالح الانضمام لروسيا، بينما يمثل السكان من الأوكرانيين في الإقليم نحو 24 في المئة، وذلك وفقا لآخر إحصاء سكاني أجرته أوكرانيا منذ عام 2001.

ويعد السيميريون أول من استوطنوا شبه جزيرة القرم منذ حوالي ألف عام قبل الميلاد، وفي القرن السابع قبل الميلاد، احتل السكيثيون منطقة السهوب، لكن نجت مملكة البوسفور في شبه جزيرة كيرش حيث تعرضت لتأثير يوناني قوي.

وقد وقعت شبه جزيرة القرم تحت سيطرة اليونانيين والرومان لعدة قرون، فخلال القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، أنشأ الإغريق مستعمرات على طول سواحل القرم، وكان أهمها في تشيرسونيسوس بالقرب من سيفاستوبول الحديثة، وبانتيتابايوم حيث تقع كيرش الآن.

وقد نجت تلك المستعمرات، التي خضعت للسيطرة الرومانية في عام 15 قبل الميلاد، من سلسلة من الهجمات التي شنتها جحافل البدو الشرقيين الذين احتلوا فيما بعد منطقة السهوب.

وقد طالب أمير كييف فلاديمير الأول في القرن العاشر بتلك المدن الساحلية، لكن كييف لم تكن قادرة على الاحتفاظ بشبه جزيرة القرم التي سقطت في أيدي الكيبشاك الأتراك ولاحقا في يد تتار القبيلة الذهبية.

وفي القرن الثالث عشر، أنشأت جنوة بؤر استيطانية تجارية على طول الساحل حيث تمكنت في النهاية من السيطرة على تجارة البحر الأسود.

وفي أوائل القرن الرابع عشر انتشر الإسلام بين السكان التتار في المناطق الداخلية لشبه جزيرة القرم تحت حكم أوز بيك، خان القبيلة الذهبية، الذي اعتنق الإسلام، وباتت خانية القرم تابعة للسيادة العثمانية في عام 1475، وعلى الرغم من أن قوتهم قد تضاءلت بشكل كبير منذ أيام الغزوات المغولية ، فقد شن التتار غارات متكررة على موسكو من عاصمتهم في باخشيساراي في جنوب شبه جزيرة القرم.


الصراع الروسي العثماني على شبه جزيرة القرم

كانت الإمبراطورية العثمانية القوة المهيمنة في المنطقة لعدة مئات من السنين، لكن توسع الحدود الجنوبية لروسيا الذي بدأ بشكل جدي في أواخر القرن السابع عشر على يد القيصر بطرس الأكبر أدى في كثير من الأحيان إلى صراع بين القوتين.

وخاضت روسيا والإمبراطورية العثمانية على مدى القرنين التاليين سلسلة من الحروب للسيطرة على منطقة البحر الأسود.

وأسفرت واحدة من تلك الحروب التي دارت رحاها من عام 1768 إلى عام 1774 عن معاهدة كوتشوك كيناركا في عام 1774 التي قامت بمقتضاها دولة تتار القرم المستقلة، وفي عام 1783 ضمت الإمبراطورة الروسية كاترين الثانية شبه الجزيرة التي أصبحت أرضا روسية.

واستمر التنافس الإقليمي بين الروس والأتراك واتسع نطاقه في حرب القرم (1853-1856) حيث حاربت بريطانيا وفرنسا، اللتان كانتا متخوفتين من الطموحات الروسية في بلاد البلقان، روسيا للاستحواذ على إرث الدولة العثمانية الآفلة.


تدخل الاتحاد السوفيتي في النزاع

عندما أدت ثورة 1917، إلى انهيار الإمبراطورية الروسية، استغل تتار شبه جزيرة القرم الوضع وأعلنوا عن قيام جمهورية ديمقراطية مستقلة، وخلال الحرب الأهلية الروسية (1918-1920)، كانت القرم بمثابة المعقل الأخير للقوات البيضاء، وأدت هزيمتهم إلى نهاية دولة القرم المستقلة.

وبعد انتصار البلاشفة باتت شبه جزيرة القرم جمهورية القرم الاشتراكية السوفيتية المتمتعة بالحكم الذاتي في عام 1921، وقُتل عشرات الآلاف من تتار القرم أثناء قمع جوزيف ستالين للأقليات العرقية، وأدى ذلك لاحتلال النازيون شبه جزيرة القرم في أوائل عام 1940 قبل أن يُطردوا منها.

وفي عام 1944، رُحل ما تبقى من تتار القرم، حوالي 200 ألف شخص، قسرًا إلى سيبيريا وآسيا الوسطى بزعم تعاونهم مع النازيين خلال الحرب العالمية الثانية.


وبعد الحرب، تم تخفيض وضع شبه جزيرة القرم من جمهورية تتمتع بالحكم الذاتي إلى إقليم من جمهورية روسيا الاشتراكية الاتحادية السوفيتية.

وفي عام 1954، تم نقل تبعيتها إلى أوكرانيا خلال الاحتفال بالذكرى الـ 300 لاتفاقية بيرياسلاف وهي المعاهدة التي سلمت أوكرانيا إلى روسيا.

ومع وفاة ستالين وصعود نيكيتا خروتشوف كزعيم سوفيتي، سُمح للقوميات التي تعرضت للترحيل الداخلي في النهاية بالعودة إلى مناطقها الأصلية إلا أن تتار القرم كانوا استثناء ملحوظًا.

وفي أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي ومع تفكك الاتحاد السوفيتي، استقر العديد من التتار في القرم وزاد عددهم من حوالي 38 ألف نسمة في عام 1989 إلى ما يقرب من 243 ألف نسمة في مطلع القرن الحادي والعشرين، وهم يشكلون الآن زهاء 12 بالمئة من سكان شبه جزيرة القرم،  كما تم تغيير الوضع القانوني لشبه جزيرة القرم خلال تلك الفترة.

ففي عام 1991، أصبحت شبه جزيرة القرم جمهورية ذات حكم ذاتي داخل الاتحاد السوفيتي، ولكن مع حل الاتحاد السوفيتي رسميا في ديسمبر من ذلك العام، انتقلت تبعية شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا المستقلة حديثًا.

وفي أوائل تسعينيات القرن الماضي وجد تتار القرم العائدين أنفسهم في دولة مستقلة جديدة هي أوكرانيا حيث واجهوا نسبة بطالة عالية جدا وظروف سكن رديئة للغاية؛ نتيجة لذلك، نشبت توترات واحتجاجات متواصلة تتعلق بحقوق الملكية إذ أن تمليك الأراضي في القرم للتتار كان أمرًا خلافيًا في أوكرانيا.

وقد تبنى البرلمان الأوكراني حينئذ قرارًا يعتبر تتار القرم هم السكان الأصليين لشبه جزيرة القرم، على أن تعمل أوكرانيا بموجبه على تحريرهم وتنميتهم في المجالات العرقية والثقافية واللغوية بوصفهم مواطنين أوكرانيين.  

 

ويرى تتار القرم أن العيش في ظل أوكرانيا أو الاتحاد الأوروبي يفتح لهم آفاقا أوسع في مجال الحقوق والحريات، فقد هاجرت الغالبية العظمى من تتار القرم من الإقليم بعد أن تعرضوا لعمليات تهجير قسري في عهد الزعيم السوفييتي السابق جوزيف ستالين عام 1944، وذلك بعد أن اتهمهم بالتعاون مع الألمان خلال الحرب العالمية الثانية.

عودة النزاع من جديد

عقب إعلان استقلال أوكرانيا، سعى سياسيون روس في القرم إلى توثيق علاقات شبه الجزيرة مع روسيا وإلى تثبيت سيادتها من خلال سلسلة من الخطوات وصفتها الحكومة الأوكرانية بأنها منافية للدستور الأوكراني، الذي سن في عام 1996، على أن القرم لها وضع الجمهورية ذاتية الحكم، ولكنه نص أيضًا على أن القوانين التي تسن في القرم يحب أن تتماشى مع القوانين الأوكرانية.


وفي الوقت ذاته، اتسمت العلاقة بين كييف وشبه جزيرة القرم بالتعقيد حيث شكل الروس غالبية السكان في شبه جزيرة القرم، وأدت حركة استقلال قصيرة العمر في عام 1994 إلى إلغاء منصب رئيس الجمهورية المتمتعة بالحكم الذاتي، وقد زاد نفوذ موسكو في القرم من تعقيد الأمور خاصة ما يتعلق بأسطول البحر الأسود وقاعدته في سيفاستوبول.

ويعد ميناء سيفاستوبول قاعدة بحرية مهمة، وكان مقر أسطول البحر الاسود الروسي منذ الحقبة السوفيتية. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، جرى تقسيم الأسطول بين روسيا وأوكرانيا.

وقد ألزمت مذكرة بودابست، الموقعة من قبل روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة وبريطانيا في ديسمبر من عام 1994، الموقعين باحترام حدود أوكرانيا ما بعد الاتحاد السوفيتي، بينما تعهدت أوكرانيا بنقل مخزونها الهائل من الأسلحة النووية من الحقبة السوفيتية إلى روسيا.

كما حُسمت مسألة أسطول البحر الأسود بتقسيمه بالتناسب بين الطرفين وقد مُنحت روسيا عقد إيجار ممتد لمرافق الموانئ في سيفاستوبول، ومع التوقيع على معاهدة الصداقة والتعاون والشراكة في عام 1997 تم تأكيد شبه جزيرة القرم مرة أخرى كأرض أوكرانية.

وقد اتفق البلدان على بقاء الاسطول الروسي في مقره في سيفاستوبول حتى عام 2017، ولكن بعد انتخاب فيكتور يانوكوفيتش المؤيد لروسيا رئيسا لأوكرانيا في عام 2010، وافقت أوكرانيا على تمديد بقاء أسطول البحر الأسود في سيفاستوبول بـ 25 سنة بعد 2017، مقابل حصول أوكرانيا على الغاز الروسي بأسعار تفضيلية.

وقد ظل وجود الأسطول الروسي في سيفاستوبول مصدر توتر بين روسيا وأوكرانيا، ففي عام 2008، طالبت أوكرانيا - التي كان يحكمها آنذاك الرئيس فيكتور يوشنكو الموالي للغرب - روسيا بالامتناع عن استخدام أسطول البحر الأسود في صراعها مع جورجيا.

بداية السيطرة الروسية على شبه جزيرة القرم

في أوائل القرن الحادي والعشرين، ومع اهتزاز المشهد السياسي في أوكرانيا بسبب الثورة البرتقالية، ظل سكان شبه جزيرة القرم، التي تقطنها أغلبية روسية، من أشد المؤيدين لفيكتور يانوكوفيتش الموالي لروسيا.

وعندما أصبح يانوكوفيتش رئيسا في عام 2010 ، مدد عقد إيجار روسيا للميناء في سيفاستوبول حتى عام 2042. وسمحت الاتفاقية لروسيا بوضع ما يصل إلى 25 ألف جندي في سيفاستوبول والحفاظ على قاعدتين جويتين في شبه جزيرة القرم.

وفي أوائل عام 2014، أصبحت شبه جزيرة القرم محور أخطر أزمة بين الشرق والغرب منذ الحرب الباردة، وذلك بعد الاطاحة بالرئيس الأوكراني المنتخب يانوكوفيتش، في احتجاجات شابها العنف في العاصمة كييف.

وفي فبراير عام 2014، فر يانوكوفيتش من كييف بعد أشهر من الاحتجاجات الشعبية التي أطاحت بحكومته، وعقب ذلك قامت قوات موالية لروسيا بالسيطرة على شبه جزيرة القرم.


وكانت المظاهرات المؤيدة لروسيا شائعة في جميع أنحاء شبه جزيرة القرم، ولكن كانت المظاهرات التي نظمها تتار القرم مرئية بنفس القدر، والذين دعموا بشكل كبير استمرار الارتباط بأوكرانيا.

وفي مارس من نفس العام، تلقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، موافقة البرلمان الروسي على إرسال قوات إلى شبه جزيرة القرم بدعوى حماية السكان من أصل روسي.


وفي 16 مارس عام 2014، قد تم إجراء استفتاء شعبي حول وضع شبه جزيرة القرم  على الرغم من أن الحكومة المؤقتة في كييف وصفت الاقتراع بأنه غير دستوري.

ودعا زعماء تتار القرم إلى مقاطعة التصوي،  وكانت النتيجة 97 في المئة لصالح الانضمام إلى روسيا على الرغم من الإبلاغ عن العديد من المخالفات.

ولم تعترف كييف بالاستفتاء، وتحركت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على الفور لفرض عقوبات على قائمة ضمت كبار المسؤولين الروس وأعضاء حكومة القرم المعلنة من جانب واحد.

ووقع بوتين في 18 مارس، معاهدة دمج شبه جزيرة القرم في الاتحاد الروسي، ولم يعترف سوى عدد قليل من البلدان بشرعية الضم الروسي، وأكدت الأمم المتحدة مرارًا أن شبه جزيرة القرم لا تزال جزءًا لا يتجزأ من أوكرانيا.

وتم تصنيف روسيا في نظر القانون الدولي على أنها "قوة محتلة" في شبه جزيرة القرم، ولم يُنظر إلى موسكو على أنها تتمتع بأي مطالب قانونية في شبه الجزيرة.

وبذلك يظل الصراع الروسي الأوكراني على شبه جزيرة القرم، قائمًا، وكل طرف يرى أن هذه المنطقة حق أصيل له، ولا يعترف بحق الاخر في سيادته عليها، فهل سيجد المجتمع الدولي حل جذري لهذه الأزمة، أم ستظل شبه جزيرة القرم مثل الشوكة التي قد تعيق الوصول لحل سلمي للحرب الروسية-الأوكرانية؟.