تشهد الساحة السياسية الفرنسية استعدادات مكثفة للانتخابات الرئاسية المقررة عام 2027، وسط مؤشرات على إعادة تشكيل قيادة أقصى اليمين في فرنسا، بعد التصريحات اللافتة التي أطلقتها زعيمة حزب التجمع الوطني مارين لوبان بشأن مستقبل الحزب وخياراته الرئاسية المحتملة.
وأكد خبراء سياسيون فرنسيون أن تصريحات لوبان حول قدرة رئيس الحزب الشاب جوردان بارديلا على الفوز بالانتخابات الرئاسية "بدلًا منها" تعكس استراتيجية احتياطية لضمان استمرار نفوذ حزب التجمع الوطني على الساحة السياسية الفرنسية، حتى في ظل التحديات القضائية والسياسية التي تواجهها زعيمة الحزب شخصيًا.
لوبان تراهن على جوردان بارديلا
في مقابلة مع صحيفة "لا تريبين دو ديمانش" الفرنسية، قالت مارين لوبان إن بارديلا، البالغ من العمر 30 عامًا، يمتلك خبرة سياسية نضالية تمتد لما يقارب 15 عامًا، ويعكس طموحات تيار أقصى اليمين في فرنسا بشكل أفضل من أي وقت مضى.
وأضافت لوبان أن بارديلا يتعرض لحملة تشويه غير مسبوقة، مشددة على أن ثقتها في قدراته أكبر بكثير مما كانت تضعه في شبابية الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون.
وشددت لوبان على أن المعركة السياسية يمكن أن تتخذ وجوهًا متعددة، وأن أفكارها السياسية ستستمر، وأن مستقبل فرنسا مضمون ضمن إطار حزبها السياسي حتى في حال عدم ترشحها شخصيًا للانتخابات الرئاسية المقبلة.
تواجه مارين لوبان تحديات كبيرة على صعيد الساحة القضائية في فرنسا، حيث سيُنظر في استئناف الحكم الصادر ضدها من 13 يناير/كانون الثاني حتى 12 فبراير/شباط 2026 بشأن قضية مساعدي البرلمان الأوروبي التابعين لحزبها.
وكانت المحكمة الابتدائية في باريس قد أصدرت حكمًا يقضي بسجن لوبان لمدة أربع سنوات، منها سنتان نافذتان، وفرض غرامة مالية بقيمة 100 ألف يورو، إلى جانب منعها من الترشح لمدة خمس سنوات، ما يقلص بشكل كبير فرصها الشخصية في المنافسة على قصر الإليزيه في فرنسا.
وعلقت لوبان على هذا الحكم بالقول: "كان يمكن في الماضي أن تتعرض للرصاص، أما اليوم فنحن نواجه رصاصة قضائية، وهي تعني الموت السياسي."
على الصعيد السياسي، انتقدت لوبان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، معتبرة أنه لم يعد عقلانيًا، وأن التأزم السياسي الحالي في فرنسا هو نتيجة لرفضه حل البرلمان أو الدعوة إلى انتخابات مبكرة، مؤكدة أن "الفرصة الآن للعودة إلى صناديق الاقتراع مسألة عاجلة للغاية".
فرص بارديلا في الانتخابات الرئاسية
وأشار برونو كورتييه، الباحث في مركز الدراسات السياسية في باريس، إلى أن تصريحات لوبان تكشف عن استراتيجية الحزب لضمان استمرار نفوذه السياسي في فرنسا، حتى في غيابها عن السباق الرئاسي.
وأوضح كورتييه أن بارديلا يتمتع بميزة شبابية وحضور إعلامي مهم، ما قد يجعله قادرًا على جذب قاعدة الناخبين التقليدية للحزب، بالإضافة إلى جمهور الشباب الفرنسي.
مع ذلك، حذر كورتييه من أن تجربة الانتخابات الرئاسية تتطلب خبرة سياسية واسعة، وقد يواجه بارديلا صعوبات في إدارة حملة وطنية شاملة والتعامل مع المواقف الحرجة على الساحة الدولية.
وأضاف: "السؤال الحقيقي لا يتمثل فقط في قدرة جوردان بارديلا على الفوز، بل في كيفية تحويل زخمه الإعلامي إلى أغلبية انتخابية فعلية."
ورأى كورتييه أن بارديلا قد يكون "الحصان الرابح" لأقصى اليمين الفرنسي إذا نجح في تحقيق ثلاثة شروط أساسية:
الحفاظ على وحدة حزب التجمع الوطني ومنع أي صراعات بين الجيل الجديد والقيادات التاريخية للحزب.
تقديم خطاب اقتصادي واجتماعي مقنع يتجاوز الشعارات الهوية التقليدية، ليخاطب الطبقات الوسطى والمتضررين من التضخم وتراجع القدرة الشرائية في فرنسا.
طمأنة الناخبين المترددين عبر إظهار قدرته على الحكم وليس الاكتفاء بدور المعارض.
وأكد الباحث أن بارديلا يمتلك إمكانات انتخابية حقيقية، لكن نجاحه سيبقى مرتبطًا بقدرته على الخروج من ظل مارين لوبان وبناء صورة رئيس محتمل مستقل، لا مجرد وريث سياسي.

بدوره، قال أستاذ العلوم السياسية الفرنسي دومنيك رينيه إن إعلان لوبان عن بارديلا كخليفة محتمل يعكس رغبتها في التحكم بمستقبل الحزب ضمن استراتيجية تيار أقصى اليمين في فرنسا.
وأضاف رينيه أن بارديلا سيواجه تحديات كبيرة تتمثل في كسب ثقة الناخبين غير التقليديين، والتعامل مع الصورة السلبية التي ترافق الحزب في فرنسا وعلى المستوى الأوروبي، خصوصًا مع محدودية خبرته التنفيذية.
وأكد رينيه أن نجاح بارديلا سيكون مرتبطًا بقدرته على توسيع قاعدة الحزب وتحقيق خطاب قادر على مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين الفرنسيين.
رغم التحديات القضائية التي تواجه مارين لوبان، وضع حزب التجمع الوطني رهانه على بارديلا ليكون الحصان الرابح للانتخابات الرئاسية المقبلة. إلا أن معادلة الفوز في فرنسا تظل معقدة، حيث يعتمد نجاح المرشح على دمج الشباب في السياسة، وتحسين صورة الحزب، وإقناع الناخبين المعتدلين بمصداقية برنامجه، وسط مشهد سياسي فرنسي متقلب يشهد صراعات حزبية وتحديات اقتصادية واجتماعية.
ويشير مراقبون سياسيون فرنسيون إلى أن الانتخابات المقبلة ستكون اختبارًا حقيقيًا لقدرة أقصى اليمين في فرنسا على تقديم مرشح قادر على تجاوز الانقسامات الداخلية للحزب، وتحقيق خطاب سياسي اقتصادي واجتماعي متوازن يلقى قبولًا بين مختلف شرائح المجتمع الفرنسي، وليس الاكتفاء بالخطاب التقليدي المبني على الهوية والمواقف الوطنية الصارمة.
كما يعتبر المراقبون أن قدرة بارديلا على التعامل مع الضغوط الإعلامية والسياسية، وبناء تحالفات داخلية وخارجية، ستحدد مصيره السياسي في فرنسا. إذ سيكون عليه إثبات أنه ليس مجرد خليفة سياسي لمارين لوبان، بل شخصية قادرة على قيادة فرنسا في مرحلة جديدة من التحديات المحلية والدولية.
يبقى السباق الرئاسي الفرنسي لعام 2027 في مرحلة حاسمة، مع بروز جوردان بارديلا كمرشح محتمل لأقصى اليمين، في ظل تحديات قانونية تواجه مارين لوبان وتأثيرات سياسية واجتماعية متشابكة. ومع استمرار الضغوط على الحزب في فرنسا، ستظل الانتخابات الرئاسية القادمة اختبارًا لقدرة بارديلا على تحويل الزخم الإعلامي والشبابي إلى قوة انتخابية فعلية قادرة على المنافسة على قصر الإليزيه.