في صحاري حائل شمال السعودية، حيث تلتقي الجبال بالمناخ المعتدل صيفاً والبارد شتاءً، تشكلت واحدة من أبرز قصص النجاح الزراعي في المملكة. فعلى أراضٍ رملية تبدو قاسية للوهلة الأولى، تنمو حبات بطاطس عالية الجودة تلبي المعايير الصارمة للأسواق المحلية والعالمية، لتصبح مادة أساسية في منتجات شركات غذائية عالمية، وعلى رأسها رقائق البطاطس.
ولا تأتي هذه البطاطس من مزارع تقليدية، بل من بيئة صحراوية واجهت تحديات كبيرة، أبرزها شح المياه وارتفاع كلفة الطاقة. ومع ذلك، تحولت هذه التحديات إلى فرصة لبناء نموذج متكامل يجمع بين الابتكار الزراعي والاستدامة الصناعية، ويضع السعودية على خريطة تصدير البطاطس والمنتجات المصنعة منها.
وتتميز تربة حائل الرملية بأنها تمنح محصول البطاطس مساحة كافية للنمو دون تشوه، بعكس التربة الصلبة التي تؤثر سلباً على جودة الثمار وقبولها في الأسواق. غير أن التحدي الأهم تمثل في محدودية المياه الجوفية، ما دفع المزارعين والجهات المعنية إلى البحث عن حلول مبتكرة ومستدامة في أنظمة الري.
ومع بدء التحول، جرى اعتماد أنظمة الري بالتنقيط المدعومة بالطاقة الشمسية، ما أسهم في ترشيد استهلاك المياه ورفع الإنتاجية. وأشار وزير الصناعة والثروة المعدنية بندر الخريف في تصريحات سابقة إلى أن المملكة طورت نموذج ري خاصاً بمحصول البطاطس المخصص لصناعة رقائق البطاطس والتصدير، بعد أن واجهت إحدى الشركات العالمية تحديات مرتبطة بشح المياه. وقد جرى اعتماد هذا النموذج رسمياً، ما ساعد على تجاوز عقبات التصدير.
ووفق بيانات وزارة البيئة والمياه والزراعة، سجل إنتاج البطاطس في المملكة خلال عام 2023 ارتفاعاً قياسياً بنسبة 47 في المائة، ليصل إلى أكثر من 621 ألف طن، محققاً نسبة اكتفاء ذاتي بلغت نحو 86.8 في المائة. وأسهم هذا النمو في تعزيز قدرة المملكة على تلبية احتياجات المصانع المحلية والتوسع في التصدير.
وأوضح حمود الصالح، مؤسس شركة لحاء للإنتاج الزراعي، أن السعودية صدّرت البطاطس لعدة سنوات متتالية إلى أسواق مثل روسيا والنرويج ولبنان والأردن، إضافة إلى تغطية الطلب المحلي. وأكد أن المياه الجوفية ما زالت تمثل التحدي الأكبر، مشيراً إلى أن تطبيق الري بالتنقيط أسهم في رفع إنتاجية الهكتار الواحد إلى ما بين 50 و60 طناً، مع خفض ملحوظ في استهلاك المياه.
ولم تقتصر التحديات على المياه فقط، بل شملت أيضاً الطاقة، حيث تعتمد المعدات الزراعية على كميات كبيرة من الوقود. ودفع ذلك العديد من المزارعين إلى التحول نحو الطاقة الشمسية، لتقليل التكاليف التشغيلية وتعزيز الاستدامة.
من جهتها، أكدت شركة بيبسيكو أن كفاءة استخدام الموارد تمثل محوراً أساسياً في استراتيجيتها بالمنطقة، مشيرة إلى أن أنظمة الري الحديثة أسهمت في خفض استهلاك المياه بنحو 30 في المائة، إلى جانب التوسع في استخدام الطاقة الشمسية. كما استثمرت الشركة مئات الملايين من الريالات في خطوط إنتاج جديدة ومراكز بحث وتطوير داخل المملكة، بما يتماشى مع مستهدفات رؤية السعودية 2030.
وفي ظل التحديات المائية التي تواجه المملكة، يعكس نموذج زراعة البطاطس في حائل مثالاً عملياً على التكامل بين الزراعة والصناعة، وقدرة السعودية على تحويل القيود البيئية إلى فرص اقتصادية، تعزز الاكتفاء الذاتي، وتفتح آفاقاً أوسع للتصدير والاستثمار المستدام.